المنشور

أسباب صعود وانكفاء التيار القومي

قبل ما يقرب من شهر اجرت قناة الحوار الفضائية معي والدكتور جاسم المهزع رئيس “جمعية الوسط العربي الاسلامي” حوارا سياسيا مطولا شاملا تحت عنوان “واقع التيارات القومية في منطقة الخليج”، ادار الحوار الاعلامي البحريني القدير الزميل الدكتور عدنان بومطيع، وقد تمحورت اسئلته حول كيفية انبثاق وصعود التيار القومي في العالم العربي ثم اسباب انحسار وانكفاء هذا التيار بدءا من هزيمة 1967 ومرورا بتصاعد وتيرة هذا الانحسار منذ اواخر السبعينيات وبخاصة بعد الثورة الايرانية عام 1979 حتى يومنا هذا، وهي الفترة ذاتها التي شهدت تنامي وصعود التيار الاسلامي سريعا بكل تلاوينه على نحو غير مسبوق في تاريخ العرب الحديث.
لقد قدم كل منا: الدكتور جاسم المهزع وكاتب هذه السطور، رؤيته الخاصة وتحليله في الاجابة عن كل سؤال من الاسئلة المتعددة التي أثارها وطرحها مقدم البرنامج الصديق الدكتور بومطيع والتي تمحورت – كما ذكرت – حول القضايا المذكورة، وفي اغلب الاجابات كنا متوافقين او متقاربين في وجهات النظر حول ما لعبته التيارات والحركات القومية من ادوار وطنية وقومية مهمة في حركة التحرر الوطني إن على صعيد الوطن القطْري وإن على الصعيد القومي، ولاسيما ابان خمسينيات وستينيات القرن الماضي خلال ما كان يعرف بـ “الحقبة الناصرية”.
ولكن بدت اجاباتنا متباينة بهذا القدر او ذاك في تحليلنا وتشخيصنا لبعض الاسباب وعوامل انتكاسات المشروع القومي الذي كان يحمله الزعيم الوطني والقومي الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، وكذلك في اسباب صعود وانحسار اليسار عامة، واذ لست هنا في حل للتحدث نيابة عن الاخ الدكتور المهزع فيما طرحه من آراء في اجاباته فإني سأحاول ما استطعت اعادة ما طرحته في اجاباتي بتكثيف واضافة ما يمكن اضافته عليها مما لم يسعفني وقت البرنامج للاستفاضة فيه او توضيحه في سياق وجهات النظر والرؤى التي قدمتها في الحوار التلفزيوني ذاته.
فكما ذكرت فإن اعظم انجازات التيارات القومية انما تحققت خلال الحقبة الناصرية اي ابان المكاسب والانجازات التي حققتها ثورة يوليو المصرية بزعامة جمال عبدالناصر في عقدي الخمسينيات والستينيات على الصعيدين الوطني والقومي.
واذا ما نحينا مكتسبات الصعيد الاول جانبا، فلقد لعبت ثورة يوليو على الصعيد القومي ادوارا تاريخية مهمة في دعم ومساندة حركات التحرر الوطني العربية المناهضة للاستعمار الغربي الذي كان جاثما على اراضي اوطانها وشعوبها، بدءا من الحركة الفلسطينية، ومرورا بثورة الجزائر وحركة التحرر اليمنية فالحركات الوطنية في الخليج العربي، وليس انتهاء بالثورة الليبية 1969م، بغض النظر عن وقوعها بعدئذ في اخطاء وممارسات بالغة الخطورة، واذا كانت هذه الانجازات لا يستطيع ان ينكرها الا مكابر او متحامل يستبد به الهوى السياسي والتعصب فإن ذلك لا يعني معصومية الحركات القومية والمشروع القومي الناصري من الاخطاء الخطيرة القاتلة سواء على مستوى الحركات التي خارج السلطة ام على مستوى الحركات او القوى والرموز الموجودة في السلطة، وعلى وجه الخصوص في النظام الناصري، وفي مقدمة هذه الاخطاء التغييب شبه الكامل للديمقراطية وارجاء مهمة بناء نظام دستوري ديمقراطي قائم على الفصل بين السلطات الثلاث واستقلالية القضاء، وحق تشكيل الاحزاب والتعددية السياسية، وارساء مبدأ حق تداول السلطة بموجب انتخابات حرة نزيهة، وضمان حرية الصحافة وسائر الحريات العامة، واستقلال مؤسسات المجتمع المدني والنقابات عن السلطة القائمة وابتعاد هذه الاخيرة عن التدخل في شئونها وفرض وصايتها عليها لتكون نسخة طبق الاصل من الحزب الحاكم او الطغمة القومية الحاكمة، كما حصل ومازال يحصل حتى اليوم في كل الانظمة القومية الحاكمة المتبقية من دون استثناء حتى بعد انكفاء النظام الناصري ومشروعه القومي.
وبسبب هذا التأجيل المستمر للمسألة الديمقراطية ترهل النظام القومي في مصر سريعا، وسرعان ما اصيب في مقتل اثر هزيمة 1967 القاصمة بعد ان نخر الفساد المؤسستين السياسية والعسكرية وتحكمت الطفيليات الفطرية الانتهازية والمنافقة في الكثير من مفاصل النظام وهي التي كانت قبلا وراء هزيمة يونيو 1967 ثم وراء وأد المشروع القومي ومبادئ ثورة يوليو والاجهاز على مكتسبات ومنجزات الثورة بعد رحيل زعيمها عام 1970، حيث لم يتخلص عبدالناصر بالكامل منها عند مماته.
أما على الصعيد الحركي والحزبي فإن غياب مبدأ المراجعة والنقد الذاتي هو احد الاسباب الرئيسية لانكفاء وانحسار لا الحركات والاحزاب القومية فحسب بل الحركات والاحزاب اليسارية كافة ايضا، وهذا ما يهدد كذلك الحركات والاحزاب الاسلامية بالانكفاء والتراجع. لكن يظل اكبر الاخطاء القاتلة والمدمرة لهذه الاخيرة، وإن كانت مازالت في اوج صعودها، ليس هو عجزها بامتياز عن اجتذاب مختلف الوان الطيف الاجتماعي والديني لشعوبها خلف مشروع ديني واحد موحد فحسب بل امعانها بامتياز وعن كل جدارة “تحسد” عليها في تفتيت الانسجة والمكونات الوطنية والاجتماعية لشعوبها ومجتمعاتها العربية، وهذا اكبر خدمة تقدمها للاستعمار الجديد والغرب بعد حمله على الانسحاب الكولونيالي من المنطقة في حين كانت المشاريع والحركات القومية على الاقل مشاريع وحركات موحدة لا مفرقة ومفتتة لشعوبها حتى في ظل ممارستها لأخطائها السياسية الكبيرة.
ولنا عودة للموضوع مستقبلا.

صحيفة اخبار الخليج
6 يوليو 2010