المنشور

ذاكرة المنامة في عيون عبدعلي

«الذكريات والوصايا» هو عنوان كتاب أصدره المنبر التقدمي مؤخراً، ويضم مقالات الراحل العزيز عبدعلي محمد أحمد، التي نشرت في أعداد نشرة «التقدمي» على مدار السنوات الماضية، وقد جرى تدشين الكتاب في حفل التأبين الذي أقامه «التقدمي» منذ يومين لفقيده المناضل، وأحد من رموزه الكبيرة التي ودعتنا مؤخراً.
يحتوي الكتاب على موضوعات متنوعة، تعكس اهتمامات الراحل الثقافية والسياسية وولعه بالتاريخ وبذاكرة المكان، وقد جرى تبويب الموضوعات في ستة فصول، تبعاً لمساحات التقارب بين الموضوعات، ويظل الاهتمام بالتاريخ، تاريخ البحرين بدرجة أساسية، هو الشاغل الأكبر للكاتب، بما في ذلك تاريخ الحركة الوطنية في البحرين، وبشكل خاص تاريخ جبهة التحرير الوطني البحرانية التي كان الرجل أحد كوادر صفوفها المتقدمة، هو الذي انضم إليها منذ مطالع الستينات ولما يزل في مطلع شبابه.
من أجمل فصول الكتاب تلك الصفحات التي تحدث فيها عبدعلي عن ذاكرة المنامة، وخاصة حي الحمّام الذي ولد وعاش فيه الشطر الأكبر من حياته، في كتابة حميمة، ورغم الإيجاز الشديد الذي تجنح إليه عبارة المؤلف، ألا أن الصفحة الواحدة مليئة بكم هائل من المعلومات، وهي ملاحظة نابهة توقف عندها الباحث في التراث عبدالله عمران صديق الراحل وجاره، الذي قدم عرضاً مصوراً عن المحطات الرئيسية في حياة صديقه.
في كتابه “سيرة مدينة” يصر عبدالرحمن منيف على أن المدن ليست هي المعالم، مهما بلغت البراعة في استعادة تفاصيلها وليست المياه والأرض والأشجار، وهذه كلها أو بعضها لاتزال قائمة أو يمكن تخيلها، فالمدن لا تقتصر على البشر، رغم أن هؤلاء هم الذين يعطونها القوام والنكهة.
«المدينة، أية مدينة، هي كل هذه الأشياء معاً وغيرها، وقد تداخلت وترابطت وتفاعلت بحيث أصبحت مختلفة عن العناصر التي كونتها مع استمرار صلتها بها واختلافها عنها”، هذا ما يخلص إليه عبدالرحمن منيف في إيجازه لفكرة أن المدينة هي الحياة بتعددها وتنوعها، فهي الأمكنة والبشر ورائحة المطر وهي التراب أيضاً، هي الزمن ذاته لكن في حالة حركة.
إلى شيء من هذا يوصلنا عبدعلي محمد أحمد في حديثه عن فريق الحمّام، وانطلاقاً منه عن المنامة وهو يتتبع إرهاصات التحول والحداثة والتجديد في العاصمة التي كانت بوابة البحرين إلى العالم، وهو يتقصى ذاكرة المكان مُحدثاً إيانا عن أماكن ومواقع زالت، ولم يعد لها من أثر، وان خلفت وراءها أسماءها.
وفي مزاوجة ذكية بين السياسي والثقافي يرصد عبدعلي محمد الكثير من الوقائع والأحداث التي عرفتها المنامة والبحرين كلها، تساعده في ذلك عدته الثقافية، هو القارئ النهم، الذي لم يحصر مطالعاته في حيز ضيق، وإنما انفتح على كل مجالات المعرفة المختلفة، لذلك فان ذاكرة النضال الوطني تطل بقوة من صفحات ذكرياته عن المكان، وهو هنا يستذكر الوقائع التاريخية والنضالات الوطنية وأسماء الشهداء في النضال من أجل الحرية.
في كلمات موجزات يطوف بنا عبدعلي محمد احمد في كتابه الصغير حجماً، الكبير والغني محتوى، في محطات متنوعة بما عرف عنه من بساطة لا تخفي الكامن خلفها من عمق.
 
صحيفة الايام
29 يوليو 2010