المنشور

انسحاب من العراق وإطلاق مفاوضات التسوية‮.. ‬خطوتان احتياليتان


خلال ثمان وأربعين ساعة ظهر الرئيس الأمريكي‮ ‬باراك أوباما خطيباً‮ ‬استعراضياً‮ ‬مفوهاً،‮ ‬كالعادة،‮ ‬ليوجه رسالتين معنونتين للداخل الأمريكي‮ ‬وللعالم الخارجي‮.‬
في‮ ‬الظهور الأول وكان‮ ‬يوم الثلاثاء‮ ‬31‮ ‬أغسطس‮ ‬‭,‬2010‮ ‬بدا الرئيس أوباما منشرح الصدر بحلته القشيبة،‮ ‬وهو محاط بكبار ضباط وجنود القوات المسلحة الأمريكية،‮ ‬حين مهد للخطاب الذي‮ ‬كرسه لاحقاً‮ ‬للإعلان البهرجي‮ ‬عن انتهاء العمليات العسكرية الأمريكية في‮ ‬العراق،‮ ‬وذلك بعد مرور‮ ‬7‮ ‬سنوات على الغزو الأمريكي‮ ‬المدمر للعراق‮.‬

وفي‮ ‬الظهور الثاني‮ ‬كان الرئيس أوباما على موعد لتكرار ذات المسرحية التي‮ ‬يعاد إنتاجها وعرضها على مدى السنوات العشرين ونيف الماضية على مسرح حديقة البيت الأبيض،‮ ‬حيث‮ ‬يُؤتى‮ ‘‬بطرفي‮ ‬التعاقد‮’ ‬والشهود في‮ ‬ذلكم المكان الذي‮ ‬يتم توضيبه وإعداده سلفاً‮ ‬وتتم دعوة صفوة من الضيوف المحليين والأجانب،‮ ‬فيتقدم الرئيس الأمريكي‮ ‬طبقاً‮ ‬للسيناريو المحفوظ ويقدم‮ ‘‬طرفي‮ ‬التعاقد‮’ ‬اللذين نجح في‮ ‘‬لم شملهما‮’ ‬إلى ضيوف البيت الأبيض ورجال الإعلام والصحافة المحلية والعالمية التي‮ ‬تُدعى خصيصاً‮ ‬لنقل مراسم هذا الحفل البروتوكولي‮ ‬لبقية العالم‮.‬

إنما هذه المرة،‮ ‬وربما بسبب تقادم المسرحية والمسرحيين،‮ ‬نصاً‮ ‬وشكلاً،‮ ‬بدا الحفل هذه المرة أقل إبهاراً‮ ‬وبهرجةً‮ ‬وتكلفاً‮.‬
وربما أيضاً‮ ‬لأن الأطراف العربية الرسمية صارت متيقنة من أن هذه‮ ‘‬الزيجات‮’ ‬القسرية المتكررة،‮ ‘‬حظوظها‮’ ‬جميعاً‮ ‬في‮ ‬الاستمرار متساوية،‮ ‬ومآلاتها كسابقاتها معروفة سلفاً،‮ ‬ولذا فهي‮ ‬أيضاً‮ ‬أقل حماساً‮ ‬وتَشَجُّعاً‮ ‬لها من السابق‮. ‬ولولا الضغط الأمريكي‮ ‬وموجبات التماهي‮ ‬مع‮ ‘‬السائد‮’ ‬لما حتى اضطرت لمجاراة هذا العمل الدبلوماسي‮ ‬الاحتيالي‮ ‬المتجدد بصورة بائسة‮.‬

حتى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس‮ (‬أبومازن‮) ‬بدا بنبرة صوته المتهدجة وهو‮ ‬يلقي‮ ‬كلمته البروتوكولية في‮ ‬حديقة البيت الأبيض،‮ ‬وكأنه متيقن من‮ ‘‬فشوش‮’ ‬هذه المحاولة الأمريكية/الإسرائيلية المنسقة،‮ ‬والتي‮ ‬دُفع إليها دفعاً‮ ‬رغماً‮ ‬عن إرادته وإرادة سلطته الضعيفة والمستضعفة‮.‬
ولأول مرة ربما منذ اعتلائه عرش البيض الأبيض،‮ ‬بدا الرئيس أوباما في‮ ‬ظهوريه ومظهريه الخطابيين السابقين‮ ‬غير صادق أبداً،‮ ‬وذلك في‮ ‬تجديد بليغ‮ ‬لأدوار الدعاية والإعلان التي‮ ‬توكلها‮ ‘‬المؤسسة‮’ ‬أحياناً‮ ‬للرؤساء الأمريكيين للعبها،‮ ‬فالولايات المتحدة لم تنسحب في‮ ‬حقيق الأمر من العراق،‮ ‬حيث سيظل‮ ‬يرابط في‮ ‬الأراضي‮ ‬العراقية قرابة خمسين ألف جندي‮. ‬وهو لم‮ ‬ينتصر في‮ ‬العراق كما حاول الإيحاء بذلك على نحو ما فعل سلفه الرئيس جورج بوش الابن من قبل،‮ ‬هذا إذا اعتبرنا تخريب العراق وطأفنته وتقسيمه سياسياً‮ ‬وعرقياً‮ ‬وجهوياً‮ ‬وحتى جغرافياً‮ (‬توفير الدعم والحماية لمناطق الشمال العراقي‮ ‬الكردي‮) ‬ووضعه على سكة الفوضى الهدامة،‮ ‬إذا اعتبرنا كل هذا ونحوه انتصاراً‮!‬

وفي‮ ‬ملف القضية الفلسطينية فإن الرئيس أوباما ليس أول رئيس أمريكي،‮ ‬ولن‮ ‬يكون الأخير،‮ ‬الذي‮ ‬يعد الفلسطينيين ويعشمهم بالدولة الفلسطينية المستقلة خلال عامين،‮ ‬فهذا الوعد الزائف قائم منذ اتفاقات أوسلو لعام‮ ‬‭,‬1994‮ ‬وقد‮ ‬يكون وزير الخارجية الإسرائيلي‮ ‬العنصري‮ ‬افيغدور ليبرمان فضح هذا الوعد الزائف بتصريحه الواضح،‮ ‬ولم‮ ‬يكد‮ ‬يمضي‮ ‬أسبوع على انطلاق جولة المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل،‮ ‬والذي‮ ‬استبعد فيه التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين خلال عام أو حتى خلال الجيل المقبل‮.. ‬بما‮ ‬يعني‮ ‬عدم استعداد إسرائيل للتسليم بإقامة الدولة الفلسطينية‮ ‘‬الموعودة‮’ ‬حتى بمواصفاتها البائسة‮.‬
ولذلك فإن المفارقة العجيبة في‮ ‬هذا الأمر إن كافة الأطراف المنخرطة في‮ ‬هذه العملية الجديدة‮.. ‬أمريكية وإسرائيلية وفلسطينية،‮ ‬مدركة في‮ ‬قرارة نفسها أن الأمر برمته لا‮ ‬يعدو أن‮ ‬يكون عملية احتيال سياسي‮ ‬جديدة لن تسفر عن شيء،‮ ‬ومع ذلك فإن هذه الأطراف توافقت،‮ ‬كل لأسبابه وظروفه ودوافعه ومراميه،‮ ‬على الشروع والاستمرار فيها‮.‬

على أن الأكثر احتياجاً‮ ‬والأكثر حماساً‮ ‬لإطلاق هذه الجولة الجديدة‮ ‘‬الدوارة‮’ ‬من المفاوضات هما الطرف الإسرائيلي‮ ‬والطرف الأمريكي،‮ ‬فلقد استماتت حكومة إسرائيل التي‮ ‬يقودها اليمين الصهيوني‮ ‬العنصري‮ ‬من أجل إطلاق جولة جديدة من مفاوضات التسوية مع الفلسطينيين ولكن بشروطها هي،‮ ‬أي‮ ‬رفض الاشتراط المسبق من الفلسطينيين لوقف الاستيطان ومناقشة قضايا الحل النهائي،‮ ‬وهي‮ ‬الأمن والحدود واللاجئين،‮ ‬وذلك من أجل تعمية الرأي‮ ‬العام الغربي‮ ‬والعالمي‮ ‬وتحويل أنظاره عن السياسات الإجرامية الاستيطانية التي‮ ‬تمارسها،‮ ‬وعن جريمة الحصار الذي‮ ‬تفرضه على سكان قطاع‮ ‬غزة منذ حوالي‮ ‬4‮ ‬سنوات‮.‬
الولايات المتحدة الأمريكية بدورها تبدو بأمس الحاجة لإطلاق هذه الجولة من المفاوضات لاستعادة جزء ولو‮ ‬يسير من مصداقيتها وشرعية وجودها في‮ ‬المنطقة العربية المفقودتين إثر‮ ‬غزوها واحتلالها المدمر للعراق،‮ ‬وانكشاف بطلان الوعود الزائفة التي‮ ‬كان وزعها الرئيس أوباما‮ ‬يمنة ويسرى في‮ ‬بداية توليه لمنصبه الرئاسي‮ ‬في‮ ‬البيت الأبيض‮.‬

هي‮ ‬بأمس الحاجة لهذه الورقة لاستخدامها في‮ ‘‬أم‮ ‬غزواتها‮’ ‬التي‮ ‬يجري‮ ‬التخطيط لها مع الشريك الإسرائيلي‮ ‬لشنها في‮ ‬الوقت المحدد ضد إيران،‮ ‬التي‮ ‬برعت في‮ ‬اقتناص هذه الورقة بإنشائها تحالفات وطيدة مع كافة فصائل المقاومة الفلسطينية الرافضة لنهج التفاوض مع إسرائيل،‮ ‬وفي‮ ‬مقدمتها حركة المقاومة الإسلامية‮ ‘‬حماس‮’ ‬وحركة الجهاد الإسلامي‮.‬

بهذا المعنى فإن‮ ‘‬حرص‮’ ‬واشنطن على تحريك المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المتجمدة،‮ ‬هو تحرك تكتيكي‮ ‬محض‮ ‬يستجيب لهدف أمريكي‮ ‬إسرائيلي‮ ‬مشترك،‮ ‬أي‮ ‬إن الولايات المتحدة تستخدم،‮ ‬في‮ ‬هذه الحالة،‮ ‬السلطة الفلسطينية‮ ‘‬كوبري‮’ -‬لا أكثر ولا أقل‮- ‬من أجل تحقيق أهداف خاصة بها،‮ ‬وغني‮ ‬عن القول أن السلطة الفلسطينية أو جزء كبير منها مدركة لهذه الحقيقة المرة،‮ ‬إلا أن هزالها‮ ‬يضطرها للتماهي‮ ‬مع هذه‮ ‘‬المقامرة‮’ ‬السياسية الأمريكية الجديدة‮.‬
ولعل قول صائب عريقات مسؤول ملف المفاوضات في‮ ‬السلطة الفلسطينية بأن السلطة ستنهار إذا فشلت هذه الجولة من المفاوضات،‮ ‬يأتي‮ ‬معبراً‮ ‬بصدق عن المستوى الخفيض جداً‮ ‬لحظوظ نجاح هذه المفاوضات،‮ ‬فمن‮ ‬غير المعقول أن‮ ‬يتم التفاوض على لا شيء تقريباً،‮ ‬تماماً‮ ‬كما أرادت إسرائيل ودعمتها في‮ ‬ذلك الولايات المتحدة‮!‬
 
صحيفة الوطن
18 سبتمبر 2010