هل من الأجدى أن يحتكم الأمر إلى فكرة أو نظرة محورية واحدة، عبرها يرى الظواهر الأخرى، وأن يرى أن هناك ناظماً للأشياء والظواهر، أم أنه ينظر إليها فرادى، جزئيات مبعثرة مختلفة.
حتى تفسير التاريخ نفسه عانى من هذا اللبس، ومثله السلوك العام للبشر، وفي هذا السياق يمكن صوغ عدة أسئلة عمن كان على حق: كارل ماركس مثلاً في اعتماده التفسير الاقتصادي لتطور مجتمعات وسلوك الأفراد، أم فرويد في اعتماده التحليل النفسي منهجاً لفهم النسق العام للسلوك البشري؟ ويمكن سوق أمثلة أخرى عن مزاعم صراع الحضارات والأديان والثقافات وهلم جرى..
أيهما أجدى للمرء: أن تكون بصيرته مفتوحة على الظواهر المختلفة، وهو يسعى لتأويلها مستعيناً بأكثر من منهج وأكثر من رؤية، فيرى الاقتصادي والثقافي والنفسي وسواه في الظاهرة الواحدة، أم يقصر ميدان بحثه ورؤيته على عاملٍ دون سواه؟.
أمن الأجدى أن يتمترس المرء وراء رؤية فلسفية بعينها يخضع الظواهر شتى لها محاولاً، طوعاً أو قسراً، تأويلها عبر هذه الرؤية، أم أنه يوسع زاوية نظره فيرى تعدد الأبعاد في الظاهرة الواحدة، فيقاربها من الزوايا المختلفة كي يستوي في نهاية المطاف إلى خلاصة أقرب إلى الحقيقة من سواها.
ثم: ألا يؤدي ذلك إلى نوع من التوفيق الذي يبلغ حد التلفيق بين نقائض مختلفة، متعددة، متناقضة، ولو تأملنا في الكثير من الأطروحات التي تجد لها سوقاً رائجة من حوالينا لوجدنا فيها نماذج لا تحصى على هذا التلفيق، الذي لا يمكن أن ينتج معرفة جديدة، أو يولد مفاهيم خلاقة.
والمعرفة بمقدار ما هي تواصل واستمرارية، فانها كذلك تتطلب الجرأة على القطيعة مع مفاهيم بلت، حتى لو كان لها من سطوة الحضور ما يتطلب المقارعة الجسورة، حتى تشق المعرفة الجديدة لنفسها درباً للأمام.
نحن الآن في عصر يجري التبشير فيه بسقوط الفلسفات الكبرى، النظريات الكبرى والمشاريع الكبرى التي كانت تزعم لنفسها امتياز الإحاطة بكل شيء، وتفسير كل شيء وتعليله، ويؤدي تفرغ العلوم والمعارف والاختصاصات وتشظيها إلى شظايا صغيرة، دقيقة، متخصـصة، إلى إنعــاش الـرأي القائل أنه لم يعد بوسع شيء واحد كبير بأن يحيط بكل شيء.
ولكن معرفة أشياء كثيرة، وإن كانت مكسباً للمرء، فإنها أشبه بحبات السبحة التي انفرط عقدها فتناثرت على الأرض كل واحدة في جهة، إن لم يجمعها خيط واحد تلتئم فيه.
صحيفة الأيام
17 نوفمبر 2010