المنشور

ألمانيا والعرب المعاصرون (2-2)

ليست المشابهة بين ألمانيا والعالم العربي المفتت دولاً وشعوباً سوى مشابهات محدودة، فرغم أن ألمانيا كانت مفتتةً في أوائل القرن التاسع عشر، فإنها كانت ضمن سيرورة الدول المسيحية الغربية التي كونت ايديولوجيات الإصلاح البروتستانتي، كبريطانيا وهولندا الرائدتين في النمو الرأسمالي، كذلك كان تسارع الصناعة الخاصة فيها كبيراً بخلاف العالم العربي، وهو ما أهل ألمانيا لأن تَكونَ قوةً صناعيةً كبرى، لكن الغلافَ الإقطاعي السياسي – الايديولوجي عرقلَ ذلك فترة سابقة طويلة نسبيا، حتى إذا هيمن على ألمانيا الموحَّدةِ عبر جيوش بسمارك سرّعَ بالتطور الرأسمالي الاقتصادي الخاص عبر أملاك النبلاء.
إنها تجربةٌ خاصةٌ بالشعب الألماني لا يمكن نسخها، بسبب ظروفها الموضوعية الاقتصادية المتقدمة قياساً للشعوب العربية، فإذا حاولت قوى سياسية واجتماعية عربية تقليدها فهي تنتزعُ بعضَ الجوانب من خيوط الايديولوجيات القومية الفاشية، وتغدو “الأمة العربية فوق الجميع” مهزلةً فيما كانت لدى الألمان مأساةً.
وقامت التجاربُ العربيةُ الشمولية العسكرية القومية والدينية المذهبية على استيرادات جزئية متضاربة، لفقدان طبقة توحيدية قومية صارمة كنبلاء بسمارك، أسست الوحدة القومية والعسكرية ولكنها جذرت البرجوازية الخاصة، صحيح ان هذه البرجوازية ظهرتْ من ضلوع هؤلاء النبلاء الشموليين لكنها أسست صناعة متقدمة.
فيما تعددتْ مساراتُ الفئاتِ الحاكمة العسكرية بين اشتراكية حكومية يرثها الضباطُ غير الأحرار من ذوي الثقافة المتخلفة قياساً حتى بالمعايير الألمانية، إلى إبقاء التخلف الريفي وسيطرة الإقطاع الزراعي، وتجميد حريات النساء وإبقاء النصوصية الدينية.
فلا يمكن مقارنة البرجوازية النبيلة الألمانية أو النبلاء المتبرجزين الألمان، بفئاتٍ ريفية عسكرية عربية متخلفة ظلت إقطاعية مذهبية دينية لم تطرح حتى شكلا توحيديا إسلاميا بمجاراة البروتستانت، وهي لم تؤسسْ نهضةً كاسحةً تشمل القطاعات كافة وتكون رأسمالية بحتة فلم يوجدْ بسمارك عربي أبداً حتى هذه اللحظة.
كما أن الأمة العربية من جهةٍ أخرى غير الأمة الألمانية، فهي شعوب دينية قاربتْ الحداثة قبل الألمان، لكن قضايا التصنيع والعلوم لم تُنجزْ لديها، وفي عهد التبعية للاستعمار الغربي مُنعت من التصنيع، والأنظمة التي نشأت فيها لم تقارب لا البسماركية الرأسمالية الخاصة العسكرية ولا التنمية الرأسمالية الغربية الحرة أو الهندية واليابانية، ولا التنمية الحكومية الرأسمالية الشاملة على طريقة روسيا والصين.
فهي أمةُ التفتت والضياع البرامجي، وما الإشارات في تجربتها لألمانيا إلا مثل إشاراتها الكثيرة لروسيا السوفيتية والصين الماوية، وأمريكا البراجماتية، تأخذُ من كل تجربة شعرة على كثرة دولها وجماعاتها ومذاهبها، من دون أن تحول هذه الشعرة إلى نظام.
فلم توجد وتتكرس تجارب تتجذر في أرض الحداثة والحرية والتصنيع وتلقي بالتخلف إلى الوراء.
وما نشوء طالبان والقاعدة وغيرهما سوى علامات واضحة على العجز البرامجي.
ألمانيا كانت صغيرة قياساً للعالم العربي، وذات مقدمات نهوضية أكبر، وحولها بسمارك لمدارس ومصانع عسكرية، فيما العالم العربي يحتاج إلى أنظمةٍ ديمقراطية ليبرالية تنمو بأشكالٍ متعددة متعاضدة، وتنشرُ العلاقات الرأسمالية الصناعية التحولية في الأرياف، وتجذبُ النساءَ للصناعة، والرأسمالية التجارية والمالية للإنتاج المتطور.
وفيما يتعلق بالأشكال الثقافية فإن العرب لهم تاريخ زاخر في الثقافة الإنسانية والعقلانية، كما أن الأشكال العنفية المتعصبة تنعزلُ يوماً بعد يوم.
إن للأمةِ العربيةِ تطورا خاصا فريدا في البشرية، وهي لن تنسخ تجارب الأمم الأخرى بل ستولدُ نموذجَها الإبداعي التاريخي الخاص، بنشاط مناضليها وشعوبها.
فمع تولد دول ديمقراطية رأسمالية عامة وخاصة بشكلٍ تدريجي وحسب مصالح شعوبها وطبقاتها ستلتئم أجزاؤها وتطور تبادلاتها وإنتاجها وتوسع صلاتها السياسية التوحيدية.
يمكن أن تقوم مجموعاتُ دولٍ نهضوية ديمقراطية عربية وتعمق التعاون والتوحد التدريجيين بينها، مصعدةً الثروتين المادية والثقافية للأمة العربية عامة، من دون بسمارك أو ستالين أو ماو.

صحيفة اخبار الخليج
23 نوفمبر 2010