المنشور

بطل ويكيليكس

العديد من التداعيات العربية على انفجار (ويكيليكس) الملعوماتي تأخذه إلى عوالمها الخاصة، عوالم الدول المتخلفة وثقافتها، حيث كل شيء مؤامرة، وأمر موجه لزعزعة عوالمها، فالثقافة البيروقراطية العربية تتشكك في أي شيء يصدر عن غير عوالم الدواوين المُعتمدة، وأن يكون عن مصدر عالي المقام، وإلا كان مؤامراة إسرائيلية أو أمريكية.
لكن لابد أن نضعَ بطلَ(ويكيليكس) في تاريخهِ الغربي الخاص، تاريخِ المغامراتِ والبحث في المجهول وكشف الخفاء والظلام، منذ أن بدأ ماجلان الدوران حول كوكب الأرض، واكتشف كولمبس أمريكا، وأطاح غاليلو التراتبية الكونية ومركزية الأرض، والعالم الحديث يتكون من أبطال العلوم والثقافة والاقتصاد يصنعون القفزات في التاريخ.
بطبيعة حال الثقافة المتخلفة يغدو (البطل) شاذاً، عديم الأخلاق، ناكراً للجميل، مسبباً للإزعاج والفوضى، والعالم المتخلف وعالم الغرب اليميني التآمري يحبّ الاستقرارَ والبقاءَ كما هو وأن تبقى الكواكب في أمكنتِها المعتمدة في اللوحِ المحفوظ، وأن يبقى الساسةُ يتآمرون ما شاء لهم التآمر، وأن تبقى الشعوبُ خارجَ مطبخ السياسة بقشورِ موزهِ الصفراء وآثار الأحذية المريبة الصانعةِ للطبخاتِ المسمومة.
لكن منذ أن تدفق عالمُ الحداثة وأخذتْ الشعوبُ مصائرَها وتوسعتْ عيونُها داخل الأروقة وجاءتْ الصحافةُ والأجهزةُ الإعلامية الكونية وثورة المعلومات حتى بقي الشأن السياسي الشللي مستحيلاً، وتبدلت غرفُ التنصت على الثوريين وصارت من نصيب الحكام والنخب التي تتكلم همساً في اليخوت وطائرات الشبح.
الرجل الاسترالي عملَ لكسر جدران النخب الارستقراطية وجعل أعمالها بين يدي الجمهور باتساع الأرض، والرؤساء ووزراء الخارجية والدفاع الذين يظهرون كأنهم بأيديهم مقادير الحياة والموت، وعمل على الدخول إلى الوثائق التي يصدرونها عبر همساتهم وتقاريرهم، فلم يعد ثمة فرق في التوقيت بين التآمر وإذاعته، وما يكاد حبرُ الطبخة المسمومة أو الشهية يجفّ حتى يكون متداولاً في ورش الأحزاب والدول.
ولهذا لابد لرجلٍ ناضلَ في ميدانٍ غيرِ مسبوق أن يتعرضَ لمحاكماتٍ عديدة على اختراقاتهِ للأجهزة، فهل سوف يحضرُ هذه الوثائق من دون أن يُسفك دمهُ عند الأسلاك الشائكة التي يزحف بينها؟ أم أنه يظل كالشخصية العربية البيروقراطية ينتظرُ الهواتفَ الغيبية والبرق اليماني؟ وهل ستتركهُ هذه الأجهزةُ العالمية المقتدرة يعمي عيون النواطير الواقفين على قلاع معلوماتها التي تصرفُ عليها الكثير من قوتِ الناس ودمهم، ثم ينشرُ اجتماعاتها وقراراتها وفضائحها على الملأ من دون عقاب؟
هنا هي الخبرة النضالية المعلوماتية والديمقراطية الثقافية، ومسار التضحيات التي قام بها كولمبس وغاليلو في إشاعة المعرفة وتكسير الجدران بين القارات، وأنسنة الكرة الأرضية، في حين ان البيروقراطي العربي المثقف والصحفي ورجل الفضاء المحنط ينتظرون أوامرَ رؤسائهم والقرارات موقعاً عليها من قبل تدرجاتهم الوظيفية الطويلة حتى يفتح كل منهم فمه ويبدأ البرنامج ويطرح الأسئلة المعلبة.
لهذا فإن مثل هذه الانفجارات المعرفية التي يقوم بها شخصٌ مثل جوليان اسانج تُقابل في العالم الثالث بالدهشة الممزوجة بالشكوك المتعالية، فهو لا شك أن يكون متآمراً، موجهاً من قبل قوة ما متنفذة، لأن الفرد ذا الشخصية الفاعلة لا وجود له.
أما إنه إنسانٌ عادي له إرادةٌ وعملَ في سبيل هدفه، وله (أخطاؤه) الجنسية والبشرية حسب الادعاءات المبثوثة ضده، واستطاعَ أن يحققَ شيئاً فريداً في عالم اليوم فهو الأمرُ الذي لا يُستوعب، بينما هو الأمرُ (البسيط) الذي تقومُ عليه حضارةُ الغرب التي يسبحُ في أجهزتِها واكتشافاتها البيروقراطي العربي ويذمها.
ولم تتكون هذه الحضارة إلا من خلال هذه المغامرات والاختراقات للكتب الصفراء والغرفِ المغلقةِ وعالم الاسرار السلطاني، وكسر احتكار الثقافة النخبوية وسياسة الأسرار المبثوثة في الكهوف المعتمة والمؤامرات وسياسات الشلل ذوات المصالح الضيقة، وتغييب الأخلاقَ والوضوح والصراحة.
فلابد أن يحدث صراخٌ من هذه الضربة، والعالم يمشي في هذا الطريق، ويعري كلَّ شيء، ولا مجال أكثر وأكثر للتآمر وسياسات الأقنعة والوجوه الألف.
إن موقع عربة الأسرار المتجولة بين ذوي النفوذ والعظمة يوزعُ مجردَ أوراق، فلماذا الخوف؟

صحيفة اخبار الخليج
5 ديسمبر 2010