المنشور

يمهل ولا يهمل


مضى زمن كنا نظنّ فيه أنّنا فقدنا قدرتنا على الغضب. كنا نظنّ أنّ اليأس قد استبدّ بنا، فأحالنا مبكراً على التقاعد والتقاعس والمستوعبات. وكنا نظنّ أنّ الطغيان قد حوّلنا إلى خصيان. وأنّ ما ألمّ بنا من الظلم والقمع والإذلال، لا دواء له ولا نهاية لجلجلته، وأنّ ما نحن عليه من القعود والقنوط لا شفاء منه لأنّه «أصلي» وقدريّ ومحتوم.
 
كنا نظنّ أنّنا قد اعتدنا الهزائم، وأدمنّا الانكسارات، وأنّ ما نصيبه من بعض نجاح إنّما هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة ليس إلّا.

وقد تناوب حكّامنا على تكريس هذه العوارض، مسلّمات ورواسخ لا تحول ولا تزول: كأنّها مشيئة الله في خلقه، أو أنّها سنّته في اختبار صبر عباده، أو أنّها أقدار شاءها لأمر لا يسأل عنه ولا يدرك. فهي، بالتالي، لا تستدعي إلا الشكر لمن لا يُشكر على مكروه سواه.

قالوا لنا بكلّ اللهجات واللكنات والوسائل والأساليب، إنّنا لسنا أمّة بل نحن قبائل وطوائف ومذاهب لتتباعد وتتنافر وتتقاتل، لا لتتعاون وتتحابّ وتتعاضد. وقالوا لنا إنّنا، دون خلق الله الآخرين، لا نستحق الحياة الحرة الكريمة، ولا نعيش إلا في المهانة والذل. فلا سلام ولا كلام إلا ما سمح به ظلّ السلطان، أو ما كان لاسمه ولأفعاله وأقواله تهليلاً وتسبيحاً وتمجيداً.

قالوا لنا لا شأن لكم بمصيركم ولا بكرامتكم ولا بمقدساتكم ولا برغيفكم ولا بأمنكم. فهذه جميعاً عطايا تعطى لكم بالقدر المناسب وفي الوقت المناسب، فما عليكم سوى الدعاء والصبر والانتظار.وعلّمونا الخضوع للسيّد الأجنبي. علّمونا أنّه الأقوى والأذكى. وأنّه بذلك ولذلك، يجب أن يُتّبع وأن يُطاع.

هكذا رسخوا في أذهاننا أنّنا لسنا شيئاً، وأنّه ليس في الإمكان أفضل مما كان. أخبرونا أنّ الخيارات معدومة. أما التمرّد أو التأفّف أو التبرّم، فهو الطريق الأقرب إلى التعذيب والزنازين وأقبية المساءلة والاستخبارات.

كدنا نظنّ أنّنا بشر غير البشر. وأنّ ديننا ليس كسائر الأديان. وأنّ شعبنا محكوم بالبقاء خارج التاريخ لأنّه لم يولد من الجغرافيا العادية والطبيعية.

فماذا دهاكم أيّها المصريون. وقبل ذلك أيّها التونسيون. وقبل وبعد، أيّها الذين انتفضتم في فلسطين، وقاومتم وانتصرتم في لبنان؟ لماذا هذا الضجيج والصخب والتظاهر والملايين؟ لماذا تعاندون الأقدار، وتتحدّون المعادلات، وتعاكسون المكتوب؟ كيف تجرؤون على نكران الجميل، وخذلان الأباطرة والآلهة والملوك الذين قرّروا أن يستمرّوا في خدمتكم والأوطان، حتى آخر نفس في صدورهم وآخر نبض في عروقهم. وهكذا سيفعل أبناؤهم وأحفادهم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

أيّها الناس الذين بعشرات الآلاف خرجتم، وبالملايين عبّرتم عن تمرّدكم، هل تدرون ما أنتم فاعلون؟ من سيتولّى أمركم، ومن «سيخدم» مقدّساتكم، ومن سيدير أموركم في الدنيا ويسدّد خطاكم إلى سواء السبيل في الآخرة؟

ذلك كان بعض الحكاية التي افتري فيها على العقل وعلى عظمة الخالق والمخلوق. وقد سقط كلّ ذلك فجأة. هل حقّاً فجأة؟ ليس الأمر كذلك تماماً، لكنّه بدا كذلك، لأنّ الغضب تحوّل بركاناً عظيماً أكل، دفعة واحدة، الأصنام والحكام والأوهام، ومعهم العسس والأجهزة وكلّ أدوات القهر والطغيان والإجرام.
لقد تبيّن أنّ التاريخ، مجسّداً في لحظة من لحظات إبداعه العظيم، يمهل ولا يهمل. وأنّ ما كان يبدو أزلياً، قد يتهاوى إلى غير رجعة، مهما كابر هذا أو تشبّث ذاك.

لم يعد العرب، كما أوهمتمونا، أمة كانت في الماضي ولم تعد في الحاضر أو المستقبل. ولم يعد حكامهم ورثة الله على الأرض. ولم تعد شعوبهم من الطين وسواها من النار والمعدن.

فها هم أبناء النيل، أبناء «الكنانة»، أبناء الحضارة الأقدم والأعظم، أبناء جمال عبد الناصر وشهداء «حرب العبور»… ها هم يستعيدون كرامتهم وحريّتهم ويتحدّون الظلم والقهر والتبعية والنهب والأجهزة السوداء، ويرفعون راية المجد مرّة جديدة في تاريخ بلدهم العظيم وأمّتهم الواحدة مهما حاولت إعاقة ذلك، قوى الهيمنة والتفتيت والشرذمة.

وشعب مصر الذي يسترجع هويّته، يبعث في الوقت عينه الرعب في قوى العدوان والطغيان على حدّ سواء. إنّه يحطّم مع نظام مبارك منظومات العار في «كامب دايفيد» وشرم الشيخ ومحور «الاعتدال»، ومن لفّ لفيف هؤلاء في دنيا العرب والعالم.

شعب مصر يبعث الآمال نضرة، فيّاضة، من جديد في أمّته، وهو يرسل في أوصالها شحنة مدهشة من الأمل والعمل والحركة والحياة.
إنّها صحوة الشعب، لا صحوة فريق واحد، أو فئة واحدة، أو حزب واحد، فيه. ولأنّ الأمر كذلك، فلتتراجع الفئويات المستشرية وليرتقِ الجميع إلى مستوى الناس، وإلى مستوى اندفاعهم وتصميمهم وعضويتهم وصفائهم، وليكن الطور الراهن من الفعل والتفكير بحجم تلك الميادين الرحبة الموحِّدة التي يكتب فيها كلّ يوم الشعب المصري ما يريده لنفسه من الأقدار والمصائر.

مصر «أمّ الدنيا» تعود إلى ناسها وأمّتها. ما أتعس مشهد الطاغية وهو يحاول خداع مصر وشعب مصر: «هوَّ رايح وإنت جاي»، كما كتب فؤاد نجم ويردّد بعده الملايين اليوم.

الأخبار 3 يناير 2011