المنشور

خطر انسداد الأفـق


ما شهدناه في الأيام القليلة الماضية من انفجارات شعبية عارمة وغاضبة تجتاح عدد من الساحات العربية من تونس إلى الجزائر واليمن والأردن ومصر، هي تطورات نوعية غير مسبوقة بكل المقاييس في المشهد السياسي والاجتماعي العربي، وهو بالضبط ما كان يقرأه عدد من الاقتصاديين الموضوعيين العرب بين سطور منحيات الأداء التنموي العربي العام والأرقام القياسية لمؤشرات هذا الأداء، خصوصاً فيما خص البعد الاجتماعي للتنمية الذي تمثله تحديداً مؤشرات البطالة والاختناقات المتفاقمة للمستويات المعيشية لعموم السكان وخصوصاً منهم ذوي المداخيل المنخفضة – والذين (أولئك الاقتصاديون) ظلوا يجسدون تلك القراءات الصارمة للمؤشرات والأرقام تحذيرات جدية من مغبة تفاقم تداعيات كل تلك المؤشرات الدالة على التدهور الاجتماعي العام وعلى تعاظم ظاهرة التهميش (Marginalization) ومخاطرها المحدقة بالأمن العربي العام.
 
       والحال أن سخطاً (Discontent) عارماً يجتاح المجتمعات العربية، وأن الإهمال واللامبالاة اللذين قوبل بهما هذا السخط من قبل الدولة العربية الرسمية وأجهزتها البيروقراطية على مر العقود الأربعة الأخيرة، قد أديا إلى تراكمه ففاض به الكيل ليتحول إلى حالة نوعية من الغضب الساطع الذي يصعب احتواؤه والسيطرة عليه.
 
       نعم لقد أخذ التهميش (Marginalization) والإفقار مأخذهما من المجتمعات العربية، خصوصاً ما تسمى بمجتمعات اقتصادات الندرة، أي ذات الكثافة السكانية المرتفعة والموارد الطبيعية المحدودة. حتى وصلت نسبة من يعيشون على أقل من دولارين في اليوم إلى أكثر من 40% من السكان في عدد من البلدان، وأضحت أحزمة الفقر تلف ضواحي كبريات المدن العربية، قبل أن تزحف العشوائيات إلى الداخل وتبدأ بمعانقة مراكز المدن وقلبها.
 
       يقول رائد المدرسة الاقتصادية الليبرالية الإنجليزي آدم سميث: “لا يمكن أن توصف أمة ما بأنها غنية ما لم يكن شعبها يتمتع بمستوى جيد من وفرة السلع والخدمات التي تجعل حياة المواطنين صحية وسَلِسلة وممتعة، وانه كلما ازدادت قدرة المواطنين على التمتع بهذه المزايا كلما أمكن وصف الأمة بأنها غنية”. وكما هو واضح فإننا لو أسقطنا هذا القول على كافة البلدان العربية فإن الحصيلة ستكون سلبية للغاية.
 
       ومع ذلك فإن المسألة لا تقتصر على الجانب المعاشي للسواد الأعظم من الناس الذين يكابدون من أجل تأمين الحد الأدنى من حاجياتهم الأساسية (Basic Needs)، على رغم أهمية هذا الجانب ومركزيته في “تفخيخ” المشكلة التي نحن بصددها.
 
       المسألة تتعلق بحدوث ما يمكن أن يرقى إلى “فجوة أجيال” (Generation Gap) بين مؤسسات ومنظومات وآليات حكم وإدارة مجتمعية كلية هرمة، وبين غالبية شبابية لطالما تم النظر إليها باستخفاف أو عدم التفات على أقل تقدير .. غالبية شبابية ليست قصراً على أوساط الطبقات الفقيرة وإنما هي تتعدى ذلك إلى شباب الطبقة الوسطى الذين لهم تطلعاتهم ورؤاهم التي استشرفوها بفضل اتصال زوايا القرية الكونية الصغيرة بعضها ببعض بشكل لم يسبق له مثيل .. وهي تطلعات تشعر هذه الكتلة الشبابية العظيمة بأنها سرقت ووئدت في ظل انسداد أفق المستقبل أمامها.
 
       وزاد من عمق هذا الشرخ أن هذه الكتلة الشبابية العملاقة – وإن بدت، رغم ضخامتها، غير مرئية في نظر الإطر الرسمية – أن هذه الكتلة باتت مقتنعة، في ضوء ما أصبح متاحاً لها التوفر عليه من معلومات غزيرة عن أحوال الدنيا وتدبلاتها وحياة الناس فيها وتحولاتها العميقة والسريعة، بفضل ثورة الاتصالات المتعاظمة شأناً – مقتنعة أن أحوالها عصية على الانصلاح ما دام الجمود يخيم على البنى المؤسسية الراسخة والمتحكمة منذ آماد طويلة في كافة مسـارات الدورة الحياتيـة للمجتمعات العربية، ومادامـت آليات الاسـتبداد تسد عليها كل منافذ التعـبير عن الذات وتحـول بينها وبين تجسـيد ذواتها (Self actualization) بصورة محكمة الإغلاق.
 
       فكان أن وجدت ضالتها في شبكة التواصل الاجتماعي التي وفرتها ثورة الاتصالات والمعلوماتية، فراحت تتواصل فيما بينها وتعبر عن كل ما يختلج في صدورها من آهات ومعاناة وتحاول البحث عن نفسها وتلمس خطواتها باتجاه رسم معالم طريق أحلامها من خلال التحاور والتجادل والتداول في شؤونها وشجونها.
 
       والمدهش أن كثيراً من هؤلاء الشباب يتمتعون بأفق ثقافي واسع وملكات فكرية وحوارية وخطابية غير عادية، ويجيدون قراءة الأرقام والبيانات والمعطيات وتحليلها بتواصلهم وتعاطيهم مع ما يصدر وينشر من تقارير ودراسات للمنظمات والهيئات ومراكز المعلومات والأبحاث الدولية على الشبكة العنكبوتية.
 
       وبهذا المعنى فإن هؤلاء الشباب هم ثروة حقيقية مهدرة، وطاقات إنتاجية معطلة شبيهة بتلك التي تصنع اليوم معجزة الهند الاقتصادية بفضل بنية النظام الديمقراطي في الهند ومرونته التي تمكنه من التعامل مع مختلف التحديات، حيث نجحت الهند في توظيف طاقات شبابها بعد تأهيلهم علمياً وتقنياً (فهم جاهزون من الناحيتين الثقافية والتربوية نتيجة لتشربهم بقيم التسامح وفلسفة المقاربة التعددية التي يعود الفضل فيها لنظامها الديمقراطي المستقر ومزيج تراثها الفلسفي الهندوكي وقبله البوذي ذي النزعات الإنسانية) قبل دفعهم لتسلم وقيادة قطاع المعرفة وتكنولوجيا المعلومات.
 
       هل هذا كل شيء؟
 
       طبعاً لا، فهنالك “ماسات” لا يقل بريقها عن “ماسات” الاستبداد والإفقار والتهميش. إلا أن درة الدرر في كل “الماسات” التي تُزيِّن الجسد الجامد الهامد هو الفساد الذي راح يزكم الأنوف من قوة الروائح التي ينفثها في كل الاتجاهات والذي تحول إلى ما يشبه الاسفنجة التي تمتص عصارة نمو إجمالي الناتج المحلي، ما يفسر عدم انعكاس نمو إجمالي الناتج على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
 
       افتحوا النوافذ .. كل النوافذ وإلا فإن الاختناق هو مصير الجميع دون استثناء. وعلى الجميع المعني هنا أن يتعظ من درس مصر البليغ والعظيم .. “مصر التي في خاطري” … و …”أيوه انتي ومين سواكِ يا حياتي يا ملاكي يا نسيم الصبح لما هب هز الأرض هزه” (مع الاعتذار للفاجومي أحمد فؤاد نجم) … والكبير كبير يا مصر.