المنشور

الوعي الديني والديمقراطية


الوعي الديني المبكرُ لدى الشيعة في بداية العصر الحديث كان متجهاً للنضال مع الأغلبية الإسلامية من أجل الديمقراطية والحداثة بغض النظر عن المذاهب، وكان مهتماً بهذا التوحد العام، ونقد رجال الدين الانتهازيين الاستغلاليين بقوة.

ربما يعودُ هذا بشكل خاص لكون هؤلاء الأفراد قد وجدوا أنفسهم بعيدين عن الدول الدينية المتعصبة، أو كانت ثمة فترات توجب التوحد بين قوى المسلمين دولاً وجماعات ضد الغزو الغربي.

كما أن الديمقراطيين الحقيقيين لا تفرقهم المذاهب والأديان والأقطار لأن هدفهم واحد هو تقدم الشعوب.
ومن هنا لا نستغرب حين يقومُ عالمٌ ديني شيعي بمدحِ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب.

الميرزا محمد حسين النائيني في كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)، وقد صدر الكتاب سنة 1906، يستعرضُ أسسَ الديمقراطية وفصلها عن الدول الاستبدادية، ويقول إن الديمقراطيةَ في نظرهِ تعني (رفض ما للسلطنةِ من مالكيةٍ مطلقةٍ وفاعلية ما يشاء وحاكمية بما يريد وقهرها بالإراداتِ السلطانية من جهة، وعدم مشاركتها)، ويضيف (إن الأمة لها حق المحاسبة والمراقبة ومسؤولية الموظفين أيضاً من جملة فروع هذين الأصلين).
والطريف أن الميرزا محمد النائيني يقدم هذا المثل للدلالة على الحكم الرشيد:

( وقد بلغ استحكام هذين الأصلين في صدر الإسلام مبلغاً عظيماً حتى قيل للخليفة الثاني – مع تلك الأبهة والهيبة- وكان قد رَقى المنبرَ يستنفرُ الناسَ للجهاد: لا سمعاً ولا طاعةً، لأنه كان عليه ثوب يمان يسترُ جميعَ بدنه، مع أن حصةَ كل واحد من المسلمين من تلك البرود اليمانية لم تكن كافية لستر جميع بدنه. وما استطاع أن يدفع اعتراضهم هذا عنه إلا بعد أن أثبت لهم أن عبدالله (ابنه) هو الذي وهبه حصته من تلك البرود.
قيل له في جواب الكلمة: لنقومنك بالسيف وما كان أشد فرحه عند رؤيته هذه الدرجة من استقامة الأمة!). ص 317 من كتاب المشروطة والمستبدة لرشيد خيون.
النائيني وبعض رجال الدين عملوا وقتذاك في بداية القرن العشرين للعمل المشترك مع بعض العناصر المتنورة في الدولة العثمانية لتوحيد جهود المسلمين في (جبهة ديمقراطية) في ذلك الحين، لكن جموعا كثيرة من رجال الدين كانت ضد ذلك.
في رؤية آية الله محمود الطلقاني من خلال تقديمه هذا الكتاب الطليعي في زمنه حيث جاءت مقدمته للطبعة الثانية في سنة 1954 إن الكثير من رجال الدين يمنعون تقدم مثل هذه الأفكار الوحدوية ولهذا من الصعب أن تنتصر.
(كنتُ أرى بعض الروحانيين وقد حولوا الزي الديني إلى وسيلة لقضاء حوائجهم الخاصة مستعينين بما تيسر لهم الاطلاع عليه من آيات وروايات يقرأونها على العوام، ويستغلون تأثرهم بها في ركوب رقاب بسطاء الناس وخداعهم.)

يرى الطلقاني إن المشكلة لا تنحصر في وقوف عدد من الروحانيين ضد المشروطية (الديمقراطية) بل كان السبب الرئيسي هو غياب الفهم الدقيق والتفصيلي (للديمقراطية) وكيفية تطبيقها بين الجمهور العام.
أي أن عدم التدرج في تطبيق الديمقراطية ونقل النموذج الأوروبي والصدام مع تقاليد المسلمين يؤديان إلى خوف الناس من هذه العملية السياسية التي تتجه لعاداتهم الدينية والاجتماعية القديمة.

إن أكبر المتصدين لتحقيق العملية الديمقراطية هم رجال الدين أو من يتأثر بهم، ولكن التراث الذي يستندون إليه ليس له علاقة بهذه الديمقراطية المؤسساتية، رغم أنها تتلاقى مع فترة اللقاح العربية القرشية، حيث يتم رفض الذل وأن الناس متساوون، لكن هذه الفترة انتهت مع تقدم الفوارق الطبقية، وليس لمسألة بني أمية وبني العباس فقط، وبهذا فإن التراث الذي غُربل من خلال سيطرات هذه القوى لم يَعُد ديمقراطياً، عبر رؤيته عدم المساواة بين الأجناس وبين الطبقات.

ورجال الدين الذين يتصدون للعملية الديمقراطية يأتون من هذا التراث الاستبدادي عامة، ولهذا فإن السياسيين المتصدين للعملية الديمقراطية لديهم العصر الديمقراطي الحديث وتكييفه لمجتمعاتهم من دون الصدام مع التراث والعادات.

لقد قام المتنورون في بداية العصر الحديث بالبحث في ذلك ولم تسعفهم أدواتهم في حل الإشكاليات بين الماضي والعصر لكنهم قدموا البدايات المهمة في هذا الصدد.
 
 
أخبار الخليج 8 ابريل 2011