المنشور

الدولة المدنية الديمقراطية…. 2 – 2


“الشعب مصدر السلطات جميعاً” هذا النص تجده في معظم الدساتير في العالم، وان اختلف المحتوى والنص من دستور إلى آخر، وفق هذا النص الدستوري الصريح الواضح تتأسس الدولة المدنية الديمقراطية، وتضع مقوماتها الأساسية، لوجودها وتأدية واجبها الدستوري، اتجاه مواطنيها، والديمقراطية تعني حكم الشعب، وهي كلمة إغريقية قديمة، بدأت في الدولة اليونانية القديمة. الديمقراطية، منظومة شاملة في أبعادها السياسية والاجتماعية، وهي ممارسة من خلال التطبيق لها على واقع بلداننا ولكنها لم تمارس في البلاد العربية، إلا في حالات محدودة وكانت في كل الأحوال والظروف مقيدة ومشروطة ومجزئة، لم تتوفر مقومات صحيحة لقيام ديمقراطية في مجتمعاتنا، حتى عندما قامت الانقلابات العسكرية في العديد من البلدان العربية، ونشأت على أنقاض الأنظمة الملكية والإقطاعية، أنظمة أطلقت على نفسها، أنظمة جمهورية، حيث أول ما قامت به تلك الأنظمة، إلغاء الأحزاب السياسية، وحل المجالس التشريعية المنتخبة في بلداننا والتضييق على أصحاب الرأي الآخر، ومصادرة الحريات العامة، مثل حرية التعبير والإعلام والتنظيم، والتضييق على منظمات المجتمع المدني، النقابات والاتحادات العمالية والطلابية والنسائية والشبابية، وإحلال محلها منظمات تابعة للحزب الحاكم. ومورست سياسة الترهيب والقمع بتكميم الأفواه للمعارضين بما فيهم أعضاء الأحزاب الحاكمة، الذين لهم رأي آخر، في هذا الشأن أو ذاك، أهينت كرامة الإنسان العربي وتحولت تلك الأحزاب الحاكمة، وبعضها عقائدي إلى أحزاب عائلية وأخرى عسكرية، وأصبح الأمين العام أو الرئيس أو القائد للحزب، الرجل الأقوى وصاحب القرار في الحزب والسلطة.
 
أما الحديث عن الانتخابات في المؤتمرات العامة في تلك الأحزاب السياسية الحاكمة، فحدث ولا حرج، فالقائد هو الذي يختار القيادة ويضع قائمة بالأسماء المختارة للهيئات القيادية للحزب، من هنا يبدأ التسلط والانفراد بالقرار ومصادرة حق الأعضاء في الاختيار الحر والديمقراطي، للأشخاص القياديين، وتنتقل عدوى الممارسات غير الديمقراطية من حزبه إلى الشعب، ويصبح يمارس تلك الأساليب القمعية ضد أبناء شعبه، بعد ان مورست ضد رفاقه وزملائه قيادة الدولة والحزب.
 
لهذا ابتلى الوطن العربي بحكام وقادة، قساة ، دكتاتوريين، لا يؤمنون  بالديمقراطية والتعددية، وأصبحت الثقافة السائدة، ثقافة التسلط والطغيان في معظم البلاد العربية، تم اغتيال العديد من الشخصيات المتخصصة في العديد من المجالات العلمية والمهنية والكوادر الحزبية لأنها  ترفض الانصياع لأوامر القائد وحاشيته وما يقوموا به من أفعال شنيعة ضد الناس وكان يقوم بتلك الأدوار المنافية لأبسط حقوق الإنسان، أجهزة الأمن، أجهزة بوليسية قمعية، سلطت على رقاب الناس وقامت بممارسة التعذيب والتصفية الجسدية والنفسية لأعضاء المعارضة، وإشاعة أجواء من الخوف والقلق لدى الناس ومارست عليهم سياسة البطش والتنكيل والقتل، ودمرت وسرقت البلاد ، وترهلت أجهزة الدولة، وازدادت الرشوة والمحسوبية في ظل تلك السياسات الخاطئة التي أسست لها، ونشأت طبقات طفيلية فاسدة ومتنفذة تبادلت معها الأدوار في الدعم والمساندة في ظل حماية النظام السياسي القائم في البلاد .
 وبعض الأنظمة العربية عسكرت المجتمعات، والعديد من تلك الأنظمة فاقت ممارستها النظامين الفاشي والنازي المقبورين في ايطاليا وألمانيا، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 من القرن الماضي، وبالمقابل ترهلت وشاخت العديد من أحزاب المعارضة، وبالأخص الأحزاب اليسارية والتقدمية والقومية ولم تجدد قياداتها وبعضها شارك بممثلين عنه  مع تلك الأحزاب الحاكمة ولم يكون له دور يذكر ،  ومن جهة أخرى، ازداد نفوذ الأحزاب والتيارات الإسلامية، وبسبب التركيبة الحزبية والعقائدية، ورجعية وظلامية بعضها، نشأت الخلافات والتباينات بين أحزاب المعارضة في العديد من البلدان العربية، وتلك الأحزاب.
 
وذهبت ابعد من ذلك برفع شعارات دينية، مثل شعار “الإسلام هو الحل” في العديد من الحملات الانتخابية والذي يعني لا أهمية للديمقراطية والتعددية، إذا فازت فيها ، وبالفعل استلمت تلك الأحزاب الدينية السلطة في بعض البلدان العربية، السودان وقطاع غزة وحصولها على أعداد كبيرة في العديد من المجالس النيابية والبلدية ،وسارعت في طرح شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، وأسلمت القوانين والتشريعات المدنية، عزز هذا الطرح من انعدام الثقة ما بين قوى المعارضة وهي المفككة والضعيفة في معظم الدول العربية،هذا التباين والاختلاف في مفهوم بناء الدولة والديمقراطية لم يساعد على بناء قوى معارضة قادرة على المطالبة بقيام نظام وطني ديمقراطي قائم على التعددية الحزبية وعصرنة القوانين والتشريعات،يضمن حقوق الأفراد والجماعات بم فيها الأقليات،
 
 
  والتأكيد على أهمية التداول  السلمي للسلطة ،وإفساح المجال أمام هيئات ومنظمات المجتمع المدني لتمارس نشاطها بحرية تامة،وفقا للقانون والدستور.
 
كان سائدا في معظم البلدان العربية، شعور بان الجيل الجديد والمقصود “الشباب” جيل الانترنت  والفيسبوك  ،خامل، كسول، لا يمتلك روح المبادرة وغيرها من النعوت تجاه الشباب، ولكن الذي حدث من خلال انتفاضة أو ثورة الياسمين، ثورة الحرية في تونس، وبعدها انتفض شباب مصر، في 25 يناير الماضي، ليعلن عن بدء الثورة السلمية لإسقاط نظام الرئيس محمد حسني مبارك، بعد ان نجحت ثورة الحرية في تونس بهروب الرئيس زين العابدين بن علي، نستطيع القول إننا في مرحلة جديدة تنشأ على أنقاض الماضي، انه تاريخً جديدٌ يسطَره هذا الجيل، وإنهم بحق، يمكن ان يطلق عليهم جيل “التغيير والانتفاضات في الوطن العربي”.
 
فبعد الذي حدث في تونس ومصر والذي سوف يحدث في بلدان عربية، هل بالإمكان إعادة فكرة التعايش والتعاون ما بين الأحزاب المعارضة ، على أسس برامج واضحة المعالم، أهمها الاتفاق على بناء الدولة المدنية الديمقراطية، القائمة على التعددية الفكرية والسياسية، دولة المؤسسات والقانون، واحترام حقوق الإنسان والأقليات، وتترسخ فيها ثقافة التعدد والتنوع واحترام الرأي والرأي الآخر، دولة يكرم فيها الإنسان وتحترم فيه آدميته، دولة مدنية، يفصل  فيها الدين عن السياسة ، دولة مقوماتها الأساسية وركائزها وشروط قيامها، الحرية والعدل والمساواة والتقدم الاجتماعي، دولة توزع فيها ثروات البلاد، توزيعاً عادلاً بين فئات الشعب، دولةٌ الجميع فيها أمام القانون سواسية، ويحترم فيها القضاء، وان يكون مستقلاً ونزيهاً، دولة لا تصادر حقوق المواطنين، دولة لا تطلق العنان لأجهزة الشرطة السرية لتعتقل أصحاب الآراء والأفكار السياسية المعارضة في هذه البلاد أو تلك، وحق تشكيل الأحزاب السياسية،وحرية الصحافة والاعلام وغيرها  من الحقوق والمطالب المشروعة.                 
ففي بلادنا البحرين، بدأ النظام السياسي بخطوات ايجابية، بإحداث انفراج سياسي في” فبراير” شباط عام 2001، وطرح مشروع ميثاق العمل الوطني، الذي تم التصويت عليه من قبل المواطنين وبنسبة عالية من الأصوات، شاركت فيه القوى السياسية المعارضة.
 
كانت البداية مشجعة لكل الأطراف السياسية في البلاد وكان المطلوب المضي قدماً في عملية تطوير وإحداث مزيداً من التغيير والإصلاح السياسي، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات العامة المعرقلة والمعوقة للإصلاح في المجتمع وان تحترم حقوق الإنسان وتصان كرامة الإنسان في البلاد، والابتعاد عن الأساليب المسيئة للوطن والمواطن، الطائفية، التمييز، الظلم الاجتماعي، وان حدثت بعض المنغصات والأحداث العنيفة في المجتمع، لا تعالج بأساليب أمنية قديمة، بل بالحوار، والبحث عن المسببات والمشاكل، لكي لا يفسح المجال أمام الذين لا تروق لهم أحداث تغيير وإصلاح في البلاد، نعلم جيداً بان التحول الديمقراطي في المجتمع، مهمة معقدة وصعبة، بعد ان عاشت البلاد لأكثر من ربع قرن في ظل قانون امن الدولة، وزُج بالمعارضين في السجون والمنافي، في فترة اتسمت بعدم الثقة ما بين الحكم والمعارضة، استفادت منها فئة وكرشت بطونها على حساب فقراء وكادحي بلادنا، وحرُم الناس من حق الترشيح والانتخاب لسلطة تشريعية، تراقب وتحاسب السلطة التنفيذية، وانعدمت في تلك الحقبة السوداء، حقوق عديدة، حق إبداء الرأي والتعبير في الصحافة والإعلام، والتنظيم والتظاهر والاعتصام، لهذا يتطلب تطوير تلك المكتسبات التي تحققت في المرحلة الجديدة، بمزيد من الديمقراطية والحريات العامة وعدم التضييق على الصحافة والإعلام، وإدخال تعديلات على العديد من التشريعات والقوانين، بدءاً بالإصلاحات الدستورية وما يتبعه من تغير قانون الجمعيات السياسية، الي قانون الأحزاب السياسية، والإسراع بإصدار القوانين الحديثة المعززة للحريات العامة، قانون الصحافة، ليتعاطى ايجابياً مع متطلبات المرحلة، بكلمات قانون عصري، إننا نعيش لحظات تغييرات وأحداث كبيرة متسارعة في مجتمعاتنا العربية، ولا بد للحكم والشعب أن يدركان مخاطر المرحلة وما تحمله الأيام لنا.
 
 لم يعد مقبولاً، سياسة القبول بالأمر الواقع، في منطقة تشهد تغييرات غير متوقعة من خلال الانتفاضات والثورات الشبابية، تسقط أنظمة دكتاتورية فاسدة غير مأسوف عليها لكي ترحل، فلنتعظ من دروس تونس ومصر.     
 
 
 
فاضل الحليبي      
 
 
ملاحظة:
 
  المقال كتب بتاريخ 10فبراير 2011   
ونشر الجزء الأول منه في جريدة الأيام في  23 فبراير الماضي.