المنشور

بانتظار يوليو (6): احتراف الردح


لا تزال أطرف المعادلة الحوارية المنتظرة، عاجزة عن سلك ما يسعها من طرائق في اتجاه حوار التوافق الوطني، فهاهي ذي العصيّ كثيرة مستعدة للعجلات في كل مرة، ولا أحد بريء من هذه اللعبة التي لا تتقدم بنا خطوة للأمام في إطار من المغالبة ومحاولة تركيع الآخر قبل الدخول للحوار. إذ قد يعزّ على البعض أن يدخل الطرف الآخر رافع الرأس ومستوي الظهر والأكتاف، وهذا ما يزيد حموة الضغط الإعلامي المتواصل داخلياً وخارجياً وكأن الجميع قد تواطأ في سباق محموم من أجل إفشال الحوار المقبل قبل أن يبدأ لتجلس الأطراف إلى الطاولة وهي مشدودة الأعصاب، لأن هناك واجب لم يجر العمل به والإعراب عنه.

من دون داع للتذاكي على بعضنا، فكما يقال “كلنا عيال قريّة… وكل من يعرف أخيّه”، فإننا نعرف بعضنا، بل وربما بأسمائنا الثلاثية، ونعلم من الذين يكتبون يصرّحون ولحساب من، وما الأغراض والأجندات الظاهرة والخفية، وهذا الاستقتال والاستبسال الذي تبدّى لنا على حين غرّة، وظهور شخصيات و”معجزات” ووجوه وأقلام ومحطات، وجنود مجنّدة، وأموال تنفق، رعونة لا تطاق، وفلسفات إعلامية عقيمة تحاول تسويق المشاريع المتهالكة، والأفكار التي استنبتت على غفلة من الناس والتاريخ وسيرورة المجتمع البحريني، كل هذا ما يمكن إجماله ووصفه وصفاً ليست له علاقة باللغة وهو “الردح الإعلامي”، الذي صار حرفة، وصار هناك ردّاحون درجة أولى وآخرون أقل وهجاً وبريقاً وهكذا كشأن أي صنعة وحرفة وقطاع، تمت صناعة أهرام قواعدها الباهتون، وأعلاها اللامعون من الذين نجدهم في ليل نهار إما حاملين علب الكبريت أو عبوّات الزيت، ليزيدوا النيران سعيراً، وألسنتها علوّاً، وليتهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً، بل هم يعلمون ماذا يفعلون، وما المراد من كل هذا النفخ، وتتهادى الأخبار والهمسات والإشاعات بما يتلقون وما يحصلون عليه، وإنما يأكلون جمرات في أجوافهم ويلبسون أردية تصلي جنوبهم بما يكسبون من حرام على حساب وطنهم و أمان أناسه.

يمكن لأي شخص أن يفهم ويتفهّم أن خلافاً ربما يدبّ بين الناس، وجهات نظر تتباعد وتأخذ مساراتها، مواقف من أمور يراها البعض مسلمات ويراها الآخر أنها قابلة للنقاش، ما يراه البعض ثوابت ويراه الآخر متغيرات، ما يقدّسه البعض ويرفعه في عليين، ويجعله الآخر أمراً طبيعياً ودنيويا منزوعة عنه هذه الهالة والقدسية والرمزية، قراءات مختلفة ومتباينة للتاريخ والواقع وكل طرف يمكن أن يمدّ الطرف الآخر بما لديه من حجج وبراهين، ترك الشخوص وتواريخهم وأشكالهم وأصولهم نواياهم والبحث في أفكارهم وأعمالهم وما يطرحون… كل هذا ما كنا نصبو إليه ونتطلع خصوصاً بعد أن وضعت الأحداث أوزارها، وهدأ غبار الدوّار. أن تجري قراءة هادئة لما حدث من قبل الجميع، أن يتحمل كل طرف نصيبه من المسؤولية، ويشير إلى أخطائه وتقصيره، وهذا قد لمسانه في خطاب القيادة السياسية العليا للبلاد أثناء الأزمة التي قالت غير مرة، وفي غير مناسبة، أنها تعرف هناك بعض القصور، وأن عجلة الإصلاح كان قد شابها البطء، وأنه حان الوقت لتسريعها وتفعيلها. وانتظرنا من الأطراف الداخلة مباشرة في هذا الشأن أن تقول بعدما تم ما تم، أنها تتحمل جزئيات مما حدث، من دون أن تلقي الأعباء جميعها على الأطراف الأخرى، وتبدأ في التحشيد والإساءة والتشويه وتناول الشخوص والأفراد ليس بالنقد، بل بالسلخ المتجاوز لكل القيم الإعلامية المهنية، بتشويهها ليس على المستوى المحلي وحسب، بل وعلى قنوات ومحطات وصحف ومواقع إلكترونية، لا همّ لها ولا شغل شاغل غير هذا الفثّ حتى في الثوابت البحرينية، وما درجنا عليه من قيم مجتمعية تبقي على حدود وافرة من الاحترام والتوقير للجميع، لأنهم – شاءوا أم أبوا – أخوة اختلفوا، ويوماً سينتهي الخلاف، فأي أرض يمكن أن تبتلع كل ما قيل في حقّ من اختلفنا معه؟ وما الذي سنتركه لمن يأتي بعدنا من إرث يكسوه العفن اللفظي أكثر من أي شيء آخر؟

لقد استطاب كثير من الداخلين في هذا الطريق، انتهاج الشراسة المفرطة في التعرض للمخالفين، باستنهاض أكثر قواميس الهجاء قسوة وتسقيطاً، في لعبة لا تقل انكشافاً عن سابقاتها، بتبادل الأدوار في ابتداع مخالب القطط التي تخربش وتحاول دحرجة الكستناء المشوية من فوق الجمر، بينما يبقى اللاعبون الرئيسيون سليمو الأصابع، بعيدون – كما يتوهّمون – عن الخطر، نظيفو اليد، عفيفو اللسان. وقد نالوا من خصومهم ما نالوا، وحاولوا خلخلة صورتهم في الأوساط المحلية والدولية، مشككين في نواياهم وقدراتهم ووطنيتهم أيضاً، فهذا – فضلاً عن أنه لا يليق، فإنه أيضاً – لا يسهم أبداً ولا يقدم خطوة صحيحة في اتجاه حوار التوافق الوطني… بل كل ما تفعله هذه الصبيانيات هو تأزيم الوضع، وتكديس المعوقات في الطريق إلى هذا الحوار الذي لم يبق على بدئه شيئاً ونحن لا نزال نعيش أجواء متوترة على جميع الصعد. وما هذا إلا بفضل هذا الردح الذي يعيد ويزيد في النقاط نفسها من دون الذهاب إلى ما بعد المربع الأول، وما وراء الكلاشيهات التي بات الجميع يرددها (وكلٌّ له كلاشيهاته الخاصة بدلالاتها الخاصة وما تفتحه من أفق على متخيلات لا حدّ لها) من دون أن يسأل أحد ما الذي يُعنى بها، وما المراد منها، وما حقيقتها.

الوهم هذه المرة، كما المرة السابقة، سيعمل على تفويت الفرصة، وتقويض أي تفعيل حقيقي للحوار، بل والتوافق على الحوار الوطني، ما دام اللاعبون يأتون إليه بعربات تجرّها خيول وحشية عمياء علاها وحل تصعب إزالته.
 
صحيفة البلاد  23 يونيو 2011