المنشور

المسرّحون وأشباههم: لنتعلم الدرس


قادت الأوضاع الساخنة والمضطربة الكثير من المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية إلى أن تشغّل طواقمها، في فترة ما، محاورين ومحققين مع موظفيهم، حتى إن لم يكونوا قد مارسوا مهنة التحقيق التي هي واحدة من المهن المتخصصة التي تتطلب دراسة ودراية وطرقاً علمية في وضع الأسئلة واستنباط الإجابات، والخروج بمحصلة نهائية مبنية على ملاحظات مختلفة دقيقة تتعلق بمن يجري استجوابه، والأمر هنا لا يتعلق بالمخالفات الداخلية في مجال العمل، ولكن تجاوزتها بمراحل، وإلى موضوعات تصغر مخالفات العمل أمامها، وربما تتوارى وتتلاشى، فأصبح قسم كبير من هذه اللجان تعتوره الخروقات القانونية، ويعاب عليه أنه كان “يتعلم” من حالة إلى أخرى، ويكتسب الخبرة، وفي طريق هذا الاكتساب تحدث الكثير من الأخطاء والهفوات التي ربما تودي بمستقبل البعض من الذين كانوا “فئران تجارب”، بينما الجواب السهل والسلس والمسكت لجميع الانتقادات يقول: بإمكان المتضرر اللجوء إلى القضاء… هكذا بسهولة تامة من دون الأخذ بالآثار النفسية والاجتماعية والمادية التي تحيط بمن يرى أنه ظُلم من هذا السياق، وعليه أن يبذل جهوداً مضاعفة لرفع الظلم عن نفسه ومحيطه، وبصرف النظر عن أيامه وساعاته التي قضاها في ألم تشرّب هذا الإحساس المرير، ليس وحده، ولكن مع عياله ومن يلونه.

إن الحديث هنا اليوم لا يخص عشرات، ولا مئات، بل الآلاف من الذين واجهوا وضعاً لا سابق له على المستوى الوطني، حيث يجلس زملاؤهم في العمل على الطرف الآخر للطاولة ويبدأ الطرفان في مدافعة الأمر كلٌّ يريد الوصول إلى غايته، فأنتج هذا اليوم ما يزيد عن الألفي مسرّح، ناهيك عن أضعافهم الذين لم يتم البتّ بعد في قضاياهم، أو الذين سيُرفعون إلى درجات أعلى من التعاطي في هذا الأمر، وآخرون سلموا قيادهم لله تعالى يصّرف الأمور كيف يشاء من دون أي ردّ فعل، والذين نُصحوا بألا يزيدوا الأمر سوءاً بالاحتجاج على مؤسساتهم لأن هناك ما يلوح في الأفق من أن الجميع سيعودون إلى وظائفهم، فلفهم الصمت والترقب.

إنه، في البداية والنهاية، تعطيل للكثير من الطاقات التي وجب انصرافها إلى التعمير والبذل والعطاء، من قبل الطرفين الجالسين على الطاولة، بدل من إضاعة كل هذا الوقت والجهد والانكباب على هذه الملفات، والابتعاد عن الخطط الإستراتيجية التي كلفت الكثير من الوقت والمال في العامين الماضيين، لنركنها على الرفوف، ونبدأ مشروعاً بهذا الاتساع في عملية البحث عن “المخطئين” وألقابهم المجانية التي أسبغت عليهم، وذلك لمدة شهور مضت، ولمدة شهور ستأتي.

هناك توجه على ما يبدو لعودة القسم الأكبر من الذين قيل أنهم يستحقون أشد أنواع العقاب، وما الفصل من الأعمال إلا أهونها، وقد يقرأ قرار “ممتلكات” على أنه واحد من ضمن هذه التوجهات، وبالتالي سيضعُف الطالب والمطلوب، ويشعر المتحمسون بالخذلان واللاجدوى، ويشعر العائدون بالمرارة لما حدث لهم، ويبقى مصطلح “لن نقول: عفا الله عمّا سلف” متبادل بين الطرفين، كلٌّ يقوله من منطلقه!

إن بقاء أكثر من 2000 عامل اليوم خارج نطاق العمل، مضروب في 5 أفراد يعالون من قبل كلٍّ منهم (بشكل افتراضي)، سيكون من الصعب ذوبانهم من غير أن تراهم العين المجرَّدة مجتمعياً، ومن الخطأ الاعتقاد أنهم سينكفئون على أنفسهم يبكون ما قدّمت أيديهم، وما قادتهم إليه أقدامهم عندما ذهبوا إلى “الدوّار”، أو شاركوا في المسيرات المختلفة، المرخصة منها وغير المرخصة. فلقد بدأت تتكشف لدى العديد منهم صعوبة الوضع الاقتصادي المقبلين عليه في رمضان وما يعقبه من عيد ودخول للمدارس، وهي مواسم لا يقدر على مواجهتها الكثير من الذين هم على رؤوس أعمالهم، فكيف بمن هم تحت وطأة التسريح أو التجميد؟!

فالتجمّع الذي قام به المسرّحون يوم الأحد الماضي، الأول من أغسطس، الأول من رمضان، ستكون له (على ما يبدو) تبعات أخرى إن انطوت الأيام من دون حلول، وإن تم الجلوس على “الحديدة” في الصيف اللاهب. فلنحفظ هذا التاريخ الذي قد نردده كنقطة مرجعية في أحداث 2011، إلى جانب: 14 فبراير، 17 فبراير، 16 مارس، وما بينهما من تواريخ أقل أو أكثر التماعاً. إذ أن التجمّع الأولي الذي حدث كان بالون اختبار أولي لمدى صبر ولياقة الطرفين، ولكن إن درجت الأيام واستمر الحال، فمن يمكنه ضمان ألا يعيد التاريخ نفسه مجدداً؟!

قد يرجعنا هذا الوضع 17 عاماً إلى الوراء، إلى صيف العام 1994، حيث بدأت احتجاجات العاطلين أمام وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (آنذاك) بعد أن ضاق بهم الحال، ونشفت منهم العروق، ولم يبق في الوجوه ماء ليراق في طلب الوظائف. وسواء قيل أنها كانت حركة اجتماعية اقتصادية بحتة، أم أنها كانت مشوبة بأغراض سياسية لها مقاصدها، فإن وقودها هم الناس أنفسهم، إلا أنها كانت شرارة اشتعال فترة مظلمة قاسية شهدتها البحرين على كل الأصعدة، وخلفت سمعة سيئة لهذا البلد الصغير، لزم الكثير من الجهد والمبادرات حتى يزال عنها الركام العالمي السيئ الذي حاق بها، والذي يؤثر – أول ما يؤثر – على تدفق الاستثمارات إليها، وهو عصب الاقتصاد البحريني كون هذا البلد يقوم على الخدمات.

على مدى السنوات اللاحقة للعام 1994، ما عاد الكثير يذكرون شرارة الحراك العلني الجمعي، فقد استولى الملف السياسي، والمطالبات بالبرلمان والحريات وتفعيل الدستور، على بؤرة الاهتمام، وهكذا الأمور غالباً: تبدأ بشكل وتستحيل إلى شكل وتنتهي إلى شكل آخر، ولكن التاريخ يُكتب، ويُراقب لكيما نتعلم منه، أو نعتقد أننا نتعلم منه، ولا نعيد تمثيله من جديد، خصوصاً وأن الذين عاشوا تلك الفترة هم أنفسهم على الساحة اليوم، فاثنان من المشاهير على مستوى الفكر البشري يشيران بشيء من السخرية إلى أننا قليلاً ما نعي ما حدث بالأمس، ونادراً ما نستفيد منه. فيقول الروائي الإنجليزي ألدوس هكسلي “ أهم شيء في دروس التاريخ، والتي لا نعيرها عادة الكثير من الاهتمام، هي دروس التاريخ”، وكذلك الإنجليزي الساخر جورج برنارد شو إذ يقول “هيجل كان محقاً عندما قال: إننا نتعلم من التاريخ أن المرء لا يستطيع أن يتعلم أي شيء من التاريخ”!
 
صحيفة البلاد 3 أغسطس 2011