المنشور

شعب اسـتثنائي


لكل من شعوب هذا العالم الصغير تاريخه ومنجزاته وإسهاماته في الحضارة الكلية العالمية. وكلها تتوفر على فرص وإمكانيات لأن تعانق قمم التقدم والمجد لو أحسنت توظيف وإدارة مواردها وطاقاتها بشكل حصيف ورشيد.
 
ولكن وكما يقال، الإنسان ابن بيئته، فالإنسان الذي يترعرع ويشب في بيئة صحية محفزة هو غير ذاك الذي يترعرع ويشب في بيئة طاردة للعافية العقلية والتألق المعرفي والإبداع العلمي وغزارتهما الإنتاجية المادية.
 
لما كان ذلك، فقد كان لابد لكل بيئة صانعة لإنسانها أن تشكل طبيعة وخصائص وصفات هذا الإنسان. وبهذا المعنى يمكن توصيف شعوب جنوب شرق آسيا عموما بأنها شعوب تتصف وتتميز بميزات وصفات (Qualities) لا تتوفر لدى الشعوب والأمم الأخرى، ما أكسبها ميزة تفضيلية أهلتها لاعتلاء منصات التتويج في العديد من ميادين العلم والتقدم الحضاري.
 
ويقدم لنا الشعب الياباني بهذا الصدد الدليل تلو الدليل على صحة هذه الفرضية المختبرة قراءةً وفحصا لخصائص شعوب وأمم مختلفة يستوعبها كوكبنا الأرضي. فلقد أثبت هذا الشعب الآسيوي في كل مرة يوضع فيها على محك التحدي والاختبار انه قادر على مقابلتهما وتجاوزهما مهما كانت درجة صعوبتهما وخطورتهما. انه كطائر العنقاء عند العرب (أسموها كذلك لأنه يوجد في عنقها بياض كالطوق أو لأن عنقها طويل)، أو طائر الفنيق عند الإغريق (وهي كلمة يونانية تعني نوعا معينا من النخيل)، وهو طائر أسطوري يقال انه يموت في النار ومن رمادها يخرج مخلوق جديد فائق الشبه بالقديم ويعود من فوره إلى مكانه في بلاد الشرق. وهي الأسطورة التي رواها على هذا النحو المؤرخ هيرودوت.
 
الشعب الياباني هو الشعب الوحيد في العالم الذي خبر أهوال السلاح النووي، حيث استخدمت الولايات المتحدة، لأول مرة في تاريخ البشرية، هذا السلاح ضد اليابان في الأيام الأخيرة من الحرب العالية الثانية (1939-1945)، اذ حلقت طائرة حربية أمريكية يوم الاثنين الموافق للسادس من اغسطس 1945 فوق مدينة هيروشيما وألقت قنبلة نووية على المدينة، وبعد يومين من ذلك أي في التاسع من اغسطس من العام نفسه ألقت طائرة أمريكية أخرى قنبلة ثانية على مدينة ناكازاكي. القنبلة الأولى قتلت 140 الفا من سكان مدينة هيروشيما والقنبلة الثانية قتلت 80 ألفا من سكان مدينة ناكازاكي، بخلاف من ماتوا فيما بعد تأثرا بالاشعاعات النووية للقنبلتين.
 
يومها  اعتقد الكثيرون ان هذه الكارثة النووية، ستحيل معاناة اليابانيين الى كابوس يمنعهم من النهوض على أرجلهم ثانيةً ويجعلهم مسخرة لباقي الشعوب. لكن اليابانيين خيبوا ظن هؤلاء ونهضوا بسرعة البرق كثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة، أجبرت الجميع على التحدث عن معجزتها.
 
لم تكن قنبلتا هيروشيما وناكازاكي الكارثتين الوحيدتين اللتين بحد ذاتهما يمكن ان تقصما ظهر أي أمة متراخية في مسئولياتها النهضوية، ناهيك عن مقابلة تحديات العصر وتقلبات الدهر. فلا تغرنك المساحة الكلية لليابان البالغة 380,000 كيلومترا مربعا والتي توازي مساحة ولاية كاليفورنيا الامريكية وتزيد بنحو نصف مرة عن مساحة بريطانيا. فالبلاد اليابانية التي هي عبارة عن أرخبيل من الجزر يتجاوز عددها 6800 جزيرة، فانها وبسبب الطبيعة البركانية لمعظم سلسلتها الجبلية التي يتراوح ارتفاعها ما بين 2000-3000 مترا فوق سطح الأرض، و”تَوفرها” على حوالي 150 بركانا رئيسيا – فانها كثيرا ما تتعرض لهزات أرضية خفيفة يشعر بها السكان، من دون أن نغفل الزلازل القوية التي عادةً ما تخلف وراءها دمارا وضحايا هائلين، آخرها كان الزلزال العنيف الذي ضرب المناطق الساحلية شرفي اليابان يوم الحادي عشر من مارس/آذار الماضي.. هذا الزلزال الذي تبعته موجات مد بحري عالية (تسونامي) في المحيط الهادي، اقترب كثيرا من حافة خطر هيروشيما وناكازاكي، حيث أدى الى خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات والبنية التحتية، واعتبر أعنف زلزال في تاريخ اليابان منذ بدء توثيق سجلات الزلازل قبل 140 عاما.
 
الأخطر في هذا الزلزال مطاولته للمحطات النووية اليابانية، حيث أدى الى حدوث انفجار في مفاعل فوكوشيما النووي نتج عنه انهيارات في سقف وجدران مبنى المفاعل، ما هدد بوقوع اصهار في المفاعل ودفع الحكومة لإعلان حالة الطوارئ في محطة نووية ثانية وإجلاء مئات آلاف السكان عن مناطقهم المتضررة بفعل الزلزال والتسونامي والمهددة باشعاعات فوكوشيما.
 
كل هذه الكوارث البشرية (هيروشيما وناكازاكي) والطبيعية (الزلازل والأعاصير والتسونامي) لم تنل من عزيمة اليابانيين ولم تفت في عضدهم وإرادتهم وتمنعهم عن مواصلة مسيرة تقدمهم. فوسط مأساة الزلزال الأخير المدمر وانفجار مفاعل فوكوشيما تُفاجئك هذه اليابان العصية الإرادة على الكسر، بنجاح منتخبها الوطني النسائي لكرة القدم في السابع عشر من يوليو الماضي في انتزاع بطولة كأس العالم لكرة القدم للنساء للمرة الأولى والحلول محل الولايات المتحدة الامريكية في التربع على عرش كرة القدم النسائية في العالم بعد ان هزمتها في المباراة النهائية وبعد ان كانت قد هزمت قبل ذلك أقوى المنتخبات العالمية: منتخبي المانيا (صاحبة الأرض والجمهور) والسويد.
   
فما سر كل هذا التميز والتفوق؟
 
انها الروح الوثابة والشمائل الخاصة التي يتمتع بها الياباني.. من انضباط عال واحترام للوقت واحترام وتقدير لقيمة العمل. انه شعب استثنائي يقدم الدرس تلو الدرس لكل الشعوب الجادة في ركوب قطار التقدم الحضاري العالمي.