المنشور

ما الذي فعلته بنا يا إعلام ؟!


نهاية هذا اليوم (الخميس) يفترض أن يغلق ملف الاستماع إلى الصحافيين والمحررين والمنتجين والمدونين ومصوري الصحافة، وعموم العاملين في قطاع الصحافة الذين تعرّضوا لأي انتهاكات لحقوق الإنسان، أو تم إنهاء عملهم، و/أو تعرضوا للتحرش أو العقوبة بسبب عملهم، الذين دعتهم اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق للإدلاء بشهاداتهم في هذا الشأن، وهو أمر لن يكون خارجاً عن الكثير من الموظفين الذين “يزعمون” تعرّضهم لأنواع من المضايقات والعسف، وعلى اللجنة أن ترى رأيها في هذه الشهادات لتميز الصواب من الخطأ، والحقيقة من عدمها، والجوانب القانونية وغير القانونية التي تم من خلالها إنهاء عقود بعض الصحافيين، أو العاملين بشكل عام في هذه المهنة المتعلقة بركيزة لا تنفك من ركائز الديمقراطية، وهي: حرية التعبير.

وحرية التعبير هذه كان ولا يزال يدور حولها الجدل الذي لا ينتهي بين ما يمكن اعتباره حرية تعبير من عدمها، وذلك ارتباطاً بقانون المطبوعات والنشر رقم (47) للعام 2002، الذي لقي ما لقيه من معارضة في حينه، والتفت مؤسسات المجتمع المدني واقفة ضده لأنه بالقدر الذي يعني الصحافة والإعلام بأشكالها التقليدية المعروفة، فإنه يعنيها لأنه يطال جميع أشكال التعبير والنشر، وهو ما كان دون طموح الطامحين، والقاصر دون أحلام الذاهبين إلى تأسيس ممارسات توطن لمعاني حرية التعبير المسؤولة.

سيهمّ المتضررين أن يُجبر ضررهم، وسيهم زملاؤهم الذين بلعوا ألسنتهم أن يتنفسوا الصعداء شيئاً ما، وسيهم الإعلاميين الذي اختاروا تجاوز حدود البلاد خشية على سلامتهم، وإن قيل أنهم ليسوا مطلوبين على ذمة قضايا محددة جرت في الآونة الأخيرة، أن يعودوا إلى أحضان ذويهم بعد أن “مرمطتهم” الغربة بأشكال مختلفة، وسيكون على المؤسسات حينها أن تجد مخارجها الخاصة لتعيد من يوصى بإعادتهم إلى أعمالهم، على غرار ما حدث في المؤسسات الرسمية الأخرى، ولكن هذا أيضاً لا يحل المشكلة، ولا يعدو غير عودة جملة من العاملين لمزاولة أعمالهم في مؤسساتهم الصحافية والإعلامية بعد أشهر من الابتعاد الاختياري أو الإجباري عنها.

إن الأزمة الإعلامية التي حدثت إبّان ما جرى في شهري فبراير ومارس الماضيين بالتحديد، وما تلاهما من ذيول وتبعات لكل ما حدث على الشارع، كان وجهها الإعلامي واحداً من المواضيع الصالحة لأن تدرس، وتؤلف في شأنها الرسائل العلمية لأنها بيئة خصبة تماماً لنوعية “إعلام الأزمة” الذي كان من أبرز ما حاق بنا، وأثر فينا أيما تأثير، وكان الهراء فيه أكبر من المقولات الهادفة، والتحريض أوسع من أن يؤطر، والتحريش بين الناس، والكذب، والافتراء، وفتح الأبواب على مصراعيها لكل من هبّ ودبّ ليدلي برأيه، ويصنّف البشر، ويدّعي، و”يفبرك”، ويحاكم، ويجلد، بل وحتى ينصب المشانق ويسنّ السيوف للإطاحة برأس خصومه عن طريق بري الأقلام، أو بأزرار ألواح الكتابة، حتى تردّت الثقة العامة في الإعلام (بشكل عام) لكونه المرآة التي تعكس توجهات وطرائق تفكير المجتمع، فحتى هذه المرآة قد انشرخت، فلم يعد من الممكن إلا رؤية الوجه مشوّهاً عبر طرفين شاءا أن يركبا جوادين أهوجين وينطلقا بسرعة قصوى كلٌّ في اتجاه وقد رُبط في طرفيهما جسد هذا الوطن فتم تمزيقه شر ممزق.

كان السباق على أشده في الداخل والخارج المعسكرين، ومن دون رأفة، وكأن يوم غد هو يوم القيامة، فلن يعود الناس ليلتقوا، ولن يعودوا ليراجعوا ما قالوه، وما وصموا به بعضهم البعض، ولن تكون هناك محاسبات، أو على أقل تقدير وجوه مكفهرة تقابل الوجوه المكفهرة، في وطن من الصغر بحيث يتعرقل الواحد منا برجل الآخر، وتصطك الأكتاف معاً في أي محفل، وكأنها “أمّ المعارك” التي لن يكون بعدها أي التقاء، وأن هناك من سيقصي الطرف الآخر إلى الأبد، ولن يعود ليراه أو يتعامل معه، ولذا جرى الإسراف في نسف كل القواعد الإعلامية، والتطويح بمبادئ لا تقوم الأخبار ولا المقالات ولا البرامج ولا التصريحات، ولا الشهادات، ولا الكثير من الفنون الصحافية والإعلامية إلا عليها، ومن دونها يمكن القول أي شيء عن هذه الأشكال سوى القول أنها إعلاماً أو صحافة. فلا شفافية، ولا حيادية، ولا منح الطرف الآخر الحق في إبداء وجهة نظره، ولا مناقشة للرأي، وإطلاق المسميات المتصلة بلغة متدنية، مع ثقة عالية علواً كبيراً في سلامة موقف كل طرف بحسب ما يبيحه.

هذا الأمر منطبق على أشكال الإعلام في الداخل والخارج، وفي نوعية المعلومات التي تستخدم، والتي تُحجب، ونسي صحافيون كثر (مع الأسف الشديد) مهمتهم المقدسة في الالتزام بطرح القضايا بشفافية وصدق وإحاطة، لأن أي شيء دون ذلك هو الكذب الصراح، مهما كانت المبررات. فهناك قنوات وصحف ومواقع ومدونات ومنتديات، وقد استمرأت الكذب والفتنة والضخ الطائفي بشكل موارب أحياناً ومكشوف في أحايين كثيرة، خصوصاً وأن الحياء الأخلاقي والمهني قد زال عن موضعه، وإذ ذاك لا يمكنه العودة إلى النقطة التي كان عليها من قبل.

نعم، ربما يعود من في الخارج، وربما يعود من هم خارج مؤسساتهم، وربما توجد لهم حلول أخرى ومخارج مختلفة، ولكن هل ستمحى الإساءات والبذاءات والاتهامات من الذاكرة وخصوصاً أن كل شيء مسجل اليوم، ولا فكاك من إعادته، وسحبه من مخازنه البالغة الاتساع، الحافظة للنصوص والصور الثابتة والمتحركة، واللقاءات والبرامج والمقالات والأخبار، التلميحات والتصريحات التي كانت ترجو التحريك والتحريض الداخلي والخارجي، وتدبيج الكثير من الملفات المتعمدة القذارات التي تأبطها البعض مروراً بالبلدان والمنظمات القنوات الإعلامية الخارجية ترويجاً لوجهة نظر يتم الانتصار فيها إلى الطائفة لا إلى البلاد.

سيبقى رد الاعتبار أمراً واجباً ومهماً لكل من تعرض لتهديد أو ابتزاز أو فصل أو ما أشبه من ممارسات، ولكن هناك جوّاً قد تسببت فيه التصرفات الإعلامية المؤسسية أو الشخصية، سادته القتامة والكآبة، والخوف والتخويف، وترسخت فيه مفاهيم من الصعب إزالتها أو تعديلها لأن على الأرض لم يتبدل شيء مما يقال سوى ان الحدة قلت، والموجة تراجعت، والكمية انخفضت، ولكنها لم تزل موجودة، ومن مصلحة البعض أن تبقى موجودة لكيما يسترزقون منها بأن يقضموا من جسد هذا الوطن جوانب من لحمه وهو لا يزال حياً يصارع أقداره التي تكالبت عليه، ودوده الذي نبت على غفلة وتغافل داخل بطنه.
 
صحيفة البلاد
الخميس  8 سبتمبر 2011