المنشور

الأشياء بأسمائها…!


أسوأ ما يمكن أن يصدى له هذا الكم من التجاوزات والمخالفات المالية والإدارية ثقيلة الوزن وشديدة الوطأة، والتي ارتكبتها 50 وزارة وهيئة وجهة حكومية وسجلها ووثقها الإصدار الثامن من تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية، هو الاستمرار في عدم تسمية الأشياء بأسمائها، رغم ان هذه الأسماء تفرض نفسها، وهو الأمر الذي ينتهي بنا في كل شيء الى نتيجة تصدم الجميع مؤداها: ” لا مسؤول” و” لا مسؤولية ” و” لا فعل” أمام كل التجاوزات والتخبط وسوء الأداء والتي لو حدثت في بلدان أخرى لأفرزت ردود فعل نحسب أنها تطيح برؤوس كثيرة، فقط لأن هناك من لا يزال يصر على نحو يكاد يكون مذهلا على عدم تسمية الأشياء بأسمائها وجعل المساءلة «الفريضة الغائبة» التي لا تستحضر من أي باب ولا يوجد لها حضور في كل موقع ليظل التعاطي مع التقرير بكل تفصيلاته وبمجمل فصوله وفقراته وعناوينه وحيثياته، ليس فقط في حدود أنه حدث سنوي عابر او حالة طارئة، او بازار لمزايدات واستعراضات إعلامية لنواب وغيرهم ممن باتوا يفرضون أنفسهم علينا كنشطاء سياسيين وحقوقيين ومن في حكمهم، وهو أمر لم يعد بحاجة إلى شرح او إثبات، وإنما وهذا هو الأهم، تعاط يعتبر انتهاكا للقوانين واللوائح وكل أوجه التلاعبات والمخالفات والتجاوزات في المناقصات والمزايدات وأنظمة الخدمة المدنية وتغييب أنظمة الرقابة الداخلية والممارسات الموغلة في الغلط والتدليس، وكل ما يصيب الضمائر الحية بذهول لا حدود له بانها «ملاحظات» مجرد «ملاحظات»..

هل يعقل هذا..! الأسوأ من ذلك، هو تلك التبريرات التي تتسابق الوزارات والمؤسسات والهيئات الرسمية المعنية على نشرها في ردودها وتعقيباتها على ما ورد بشأنها في التقرير، الواعز الاول، والدافع الاول، والهدف الاول منها التنصل من مسؤولية اي خطأ واقناعنا بأنها «مظلومة» وانها بريئة من «الثقوب» و”العورات” التي كشف عنها التقرير، وبأن سير الأمور فيها على خير ما يرام، وربما تذهب بعض الجهات الى الاستخفاف بعقولنا وتفاجئنا بأن ممارساتها الادارية والمالية متطابقة مع المعايير الدولية في الإدارة والشفافية وما الى ذلك، وقد تتفتح قرائح بعض القائمين على أمور بعض الوزارات والجهات عن شروحات وتفسيرات إن دلت على شيء فإنما تدل أولا وأخيرا بان ثقافة الاعتراف بالخطأ لازالت غائبة، وبان المحاسبة والمساءلة ليس لهما مقاعد بارزة في الصفوف الأمامية، وهو أمر ليس هينا لا في ذاته ولا في دلالاته ولا في نتائجه. إن المطلوب هو فتح الابواب للآليات والادوات الرقابية التي من صلب مهامها ان تساءل وتحاسب وتعاقب وتغير وتقدم العبرة والنموذج المؤكد بأن ثمة جدية في التعاطي مع التقرير وإصرار على اتخاذ ما يلزم في ملاحقة المسؤولين الذين اخلوا بواجباتهم وانتهكوا القوانين والنظم والاجراءات، ولكن من المتوقع ألا يحدث شيئا من ذلك، نقول ذلك من واقع تجربة السنوات الثمان الماضية حيث كانت تقارير ديوان الرقابة تصدر سنة تلو سنة وتكشف تماديا في الاخطاء والتجاوزات، ولم نجد احدا سئل أو حوسب، ويكاد يكون الأمر مذهلا حين نجد المسؤولين عن ذلك يرون أنفسهم منزهين ولا يزالون في أعمالهم ثابتين في مواقعهم يتلقون المكافآت والحوافز والترقيات ولم يخضعوا لاي مساءلة بأي شكل كان..!!

الأسوأ من كل ذلك هو ردود اللافعل، او الظاهرة الصوتية التي تعقب صدور كل تقرير، وبالدرجة الاولى من مجلس النواب الذي هو في أي بلد له الدور المفصلي والحاسم في الرقابة والمساءلة على اداء السلطة التنفيذية، والدستور البحريني كما نعلم يجعل من النواب بجلالة قدرهم اكبر سلطة رقابية، ولكن الحديث عن هذا الدور ينكئ جروحا حينما نتابع او نستذكر كيف تعامل النواب في الفترة القريبة السابقة مع تقريرين من تقارير الرقابة دفعة واحدة وكيف مرروهما في جلسة واحدة وفي اقل من ساعة بعد ان استثمروه لتجميل الوجه وادعاء الصلاحية عبر زوبعات في المجلس النيابي واخرى في الصحف المحلية، في مشهد ألفناه حيث كثر من النواب عند صدور كل تقرير وفي صورة فيها ازدراء شديد للناس، يهددون برفع راية المحاسبة، ويتوعدون بلجم الفساد والمفسدين والعابثين بالمال العام، وفي الايام الماضية فقط وجدنا نوابا «اشاوس» باشروا استعراضاتهم التي أرادوا منها اثبات حضورهم والتأكيد بانهم فاعلين في الساحة ويمارسون دورهم بحسم وعزم حينما لوحوا بفتح ملفات وباستجوابات بل التهديد باسقاط وزراء تكررت المخالفات في وزاراتهم وملوحين بلجان تحقيق وإحالات الى النيابة العامة، وهذه الاستعراضات ليست حالة خاصة او فريدة، وانما هو تكرار لنهج باعث على الاسى الشديد استشرى في كل «موسم» من «مواسم» التقرير، المؤسف فيه انه لا يؤدي الى اي نتيجة منشودة.

ماذا نريد حيال وضع كهذا لم تمتد اليه يد العلاج:
 
– بكلام بسيط، بل مبسط لا نظنه يحتاج الى تفسير او استفاضة، نريد قبل كل شيء ان تسمى الأشياء بأسمائها، التجاوزات تسمى تجاوزات، والفساد يسمى فساد، وسوء الادارة يسمى كذلك، والتسيب واللامسؤولية والاهمال وعدم الكفاءة، والعبث بالمال العام، كل يسمى باسمه، والا سنبقى نراوح في مكاننا وسيبقى الحبل على الجرار.
 
 - نريد الا تكون ثقافة المحاسبة والمساءلة مشلولة عمليا وفي غرفة العناية الفائقة بسبب نواب جعلوا دورهم الرقابي معطلا او يمارسونه بعكس المفروض، وجعلوه وعاءً فارغاً ليس إلا. وهو الأمر الذي يثير قدرا لا يستهان به من علامات الاستفهام والتعجب حول هذا الحجم الكبير من العبث من النواب في شأن تعاطيهم الكاريكاتوري مع تقارير تلو تقارير تكشف عن تجاوزات وقضايا فساد، ويزيد الامر سوءا غياب المؤسسات الرقابية الشعبية الفاعلة التي عليها ان تؤدي دورها المفترض في مواجهة الفساد وحساب المسؤولين عنه.
 
– نريد ان تظهر للعلن وعلى الملأ صور المحاسبة الفعلية ازاء كل من اخطأ وتجاوز وعبث بالمال العام وبالموارد العامة واعلى منطق الزمرة والشلة والمحسوبية ومارس سياسة تعارض المصالح. وان يعفى من المسؤولية كل من هو غير اهل لتحملها، ولابد ان يدرك الجميع بأن هذا سلوك طبيعي وحضاري يعني احترام الناس واحترام معنى المسؤولية.
 
– نريد ان يكون التعاطي مع تقرير ديوان الرقابة المالية والادارية هذه المرة مختلفا عن كل اشكال التعاطي مع التقارير السابقة، تعاط فيه من المسؤولية ما يشعر بأن هناك ما يحتاج الى تدارك، فلا الظرف، ولا المعطيات الحالية يسمحان بذلك، الا اذا كان هناك من يتصور بأن ليس في الامر هتك مروع لأبسط قواعد المسؤولية ولا يحزنون، وبأن الكلام الكثير والكبير الذي تكرر في الآونة الاخيرة سواء على طاولة الحوار الوطني، وفي غير ذلك من المناسبات عن محاربة الفساد وعن تجاوز حاضر مريض ومأزوم، ليس مجرد كلام، ما نريده أخيرا وبإلحاح هو إحياء روح جديدة للمسؤولية، والمرجوا ان يفهم القصد والمعنى من هذه الدعوة المقرونة برسالة مفادها: ان عملا كبيرا وشاقا نفترض أنه ينتظر أولي الحزم والعزم. 
 

الأيام 25 ديسمبر 2011