في معرض حديثه عن علاقته بمكتبته يذكر الروائي اللبناني الياس خوري انه قرر مرة للتخلص من تكدس الكتب فيها، بحيث لم يعد هناك متسع للكتب الجديدة، أن يتخلص من بعضها، وما ان حزم أمره في يوم من الأيام لتنفيذ هذه الخطوة حتى أصيب باكتئاب عميق، لأنه ما إن اقترب من الكتب التي أراد رميها حتى داهمه شيء من تأنيب الضمير، فكيف يمكن لمرء أن يتخلص من كتب رسم عليها ذكريات مراهقته وشبابه المبكر، أو كتب تركت بصمة ما فيه حياته؟
إن ذلك يفسر جانباً من تلك العلاقة الغريبة التي تنشأ بين الإنسان القارئ تحديداً ومكتبته، حين يصبح للكتاب نفسه سيرة وحكاية، على النحو الذي جعل الياس خوري يقول إن الإنسان يمكن أن يكتب سيرته من خلال الكتب التي قرأها.
والواقع أن أياً منا لو طرح على نفسه السؤال عن أي من الكتب تركت في حياته أو في نفسه أثراً أو آثاراً، فبالتأكيد ستخطر على باله عناوين عدد من هذه الكتب التي عقد معها صداقة حميمة ذات يوم، أو انها شكلت مفصلاً من مفاصل تحولاته ومشاغله، فرداً ورؤية للحياة والأمور.
وأذكر ان القاصة العراقية المرموقة لطفية الدليمي كتبت قصة في غاية الجمال عن محنة المثقف العراقي الذي اضطرته ظروف الحصار الذي فُرض على العراق يومها ان يبيع ما جمعه طوال عمره من كتب في سوق السراي ببغداد، بأثمان بخسة تأميناً لما يسد الرمق، حيث أخذت بطلة القصة مجموعة من أمهات الكتب وذهبت بها إلى السوق الشهير وباعتها، ثم ابتاعت بما تقاضته من ثمن نصف كيلو من القهوة، حين عادت إلى البيت حضرت لنفسها كوباً أو أكثر من هذه القهوة، لتجد بعد ذلك ان ألماً حاداً في معدتها نجم عن شربها القهوة، وقدرت ان مؤلفي الكتب التي باعتها ينتقمون لأفكارهم التي باعتها بثمن بخس، عبر الألم الذي انتابها.
تلك حكاية من حكايا معاناة المثقف مع مكتبته. يمكن للكتاب أن يكون كذلك، نوعاً من السيرة المشتركة لأشخاص أحباء أو أصدقاء، ان كتاباً معيناً استعرته من شخص عزيز عليك أو أهداه هو إليك يكتسب قيمة إضافية على قيمته الأصلية. ان الشخص الذي أهداه أو أعاره حاضر في هذا الكتاب أيضاً، انك لا تقرأ الكتاب وحده وإنما تقرأ روح الشخص الذي اختاره لك، وغالباً ما يكون قد اختاره بعناية. تقرأ وتحسّ بالود الذي تنطوي عليه لفتته، كي يشركك في المتعة التي أحسها هو حين قراءته له.
لشاعر كردي من العراق أيضاً اسمه شيركو بيكه قصيدة قرأت مرة ترجمة عربية لها تتحدث عن رواية أعارها إلى حبيبته، ولما أعادتها إليه بعد القراءة ووضعها في مكتبته، اجتمعت حولها كل القصص القصيرة، فراحت تحكي لها عن نزهتها الجميلة في تلك الأيام القليلة التي قضتها مع عينيّ الحبيبة، قالت الرواية للقصص: ان تلك الحسناء لا تحب إلا قراءة القصص الطويلة، وبعد مدة أجال الشاعر النظر في مكتبته فرأى أن جميع القصص القصيرة تحولت إلى روايات طويلة.