المنشور

ارتداد مُنافٍ لمنطق الأشياء


في ليبيا معارك بين فصائل مختلفة شاركت في إطاحة نظام عائلة القذافي شملت العاصمة طرابلس ومعبر رأس جدير الحدودي مع تونس، ومدينة الكفرة في أقصى الجنوب الشرقي التي جرت فيها اشتباكات عنيفة أودت بحياة أكثر من 100 قتيل وهجرت الآلاف حسب الأمم المتحدة . وفي الخامس من مارس/آذار الجاري أعلن زعماء سياسيون ورؤساء قبائل عن ميلاد فيدرالية إقليم برقة الواقع إلى الشرق من ليبيا وعاصمته بنغازي، يمتد من الحدود المصرية شرقاً إلى مدينة سرت غرباً، وذلك في مؤتمر عُقد بمشاركة قرابة ثلاثة آلاف شخص من إقليم برقة الذي يشكل عدد سكانه 25% من سكان البلاد، لكنه يحوز نحو 66% من احتياطات النفط الليبي، واختاروا أحمد الزبير الشريف السنوسي رئيساً لمجلسه الأعلى .
 
ومن تونس تنقل لنا الأجهزة الإعلامية بين الحين والآخر أنباء عن هجمات مسلحة تشنها جماعات سلفية ضد مرافق حكومية ورموز أخرى للدولة التونسية، وعن اشتباكات مسلحة بين أجهزة الأمن التونسية وجماعات سلفية مسلحة . كما صار لافتاً تزايد دعوات وقضايا التكفير إلى الحد الذي دفع الرئيس التونسي الجديد منصف المرزوقي الذي كان أحد النشطاء العرب البارزين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، إلى إصدار بيان في يوم 25 فبراير/شباط الماضي دعا فيه أعضاء المجلس الوطني التأسيسي إلى سن قانون جديد يتم بموجبه تجريم التكفير في البلاد باعتباره “تهديداً للسلم الأهلي ومثيراً للفتنة بين مواطني البلد الواحد ومقدمة للعنف” .
 
وكان الرئيس المرزوقي نفسه قد طالته دعوات التكفير من قبل السلفيين المتطرفين . وهناك أنباء عن احتلال بعض المجموعات السلفية للمؤسسات التعليمية لفرض النقاب على الطالبات، وعن وجود تهديد حقيقي لقانون الأحوال الشخصية، وعن تهديدات أطلقها أحد أعضاء المجلس الوطني التأسيسي ضد العاطلين عن العمل والمحرومين والعمال المحتجين متوعداً إياهم بالصلب وبتر اليدين أو الرجلين .
 
وفي المغرب دعا رئيس الوزراء المغربي والأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبدالإله بن كيران أعضاء شبيبة حزبه للتصدي لما أسماها “جيوب مقاومة”، وأكد استعداده لمواجهة المتربصين بأداء حزبه وذلك على خلفية دعوة جمعيات حماية المال العام في المغرب إلى فتح تحقيق في الطريقة التي أسندت بها رخص النقل إلى عدد من العائلات الكبيرة والنافذة ومن الميسورين والوجوه المعروفة .
 
وفي مصر ربما كان الحال أكثر إثارة للقلق، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وهي ساطعة سطوع الشمس .
 
فهل هو قدر شعوب هذه البلدان التي اعتقدت لوهلة، أنها تحررت من خوفها بعد زوال أنظمة الاستبداد التي ظلت جاثمة على صدورها لبضعة عقود، فإذا بها وجهاً لوجه مع مخاوف جديدة أكثر إفزاعاً من مخاوفها السابقة؟
 
هذا على الأقل ما تشي به حوادث الأشهر القليلة الماضية، وما يبدو عليه حال “التحولات” ما بعد الصعود التاريخي لقوى الإسلام السياسي، وتحديداً الإخوان المسلمين، لسدة الحكم في البلدان المشار إليها آنفاً . وهي وقائع لم تستطع المفردات الفضفاضة والعمومية لرموز أنظمة الحكم الجديدة في هذه البلدان، التهوين منها وتبديد المخاوف والهواجس التي بدأت تساور قطاعات واسعة من مجتمعاتها .
 
فلقد كان الأمل يحدو الناس بعد زوال الاستبداد، بالسير قدماً بخطى حثيثة، واثقة ومنتظمة الإيقاع، بعد التخلص من احتكارية الاستبداد ومركزية ممارساته المعطلة لطاقات الإنتاج المادية والبشرية والكابحة لحركتها السلسة والمرنة . . وبالتالي فقد كان الأمل يحدوها للبناء على ما كان قد تحقق من منجزات حداثية صنعها العمل المنتج (بكسر التاء)، والمبدع وليس أجهزة الاستبداد الفاسدة التي كثيراً ما يحلو لها نسبة هذه المنجزات إلى عبقرياتها الفذة، فإذا بالناس يفاجأون بما يشبه الانتكاسة والنكوص عن الوعود الانتخابية البراقة، وذلك في “انسحاب سريع ومنظم” لقوى الإسلام السياسي التي قيضت لها ظروف المرحلة الاستثنائية الصعود إلى الحكم، من الأجندات الوطنية الكلية الجامعة إلى أجنداتها الخاصة الضيقة التي تضعها في تضاد مشدود ومتوتر ومفتوح مع عديد المكونات المجتمعية ومع مقومات بناء وإعادة بناء الدولة الحديثة وأساس تقدمها واستدامتها، وذلك بالانشعال عوضاً عن هذا المسار، بصغائر وتوافه الأمور . وبدلاً من أن تُعِدّ العدة لإطلاق مسيرة التقدم نحو آفاقها الرحبة، يتم البدء بالعد التنازلي لتراجع البلدان المعنية عن مكتسباتها الحداثية .
 
نعم هي مؤشرات ارتداد مقلقة، إذ كيف لثورات تنشد التغيير التقدمي أن تنتج مثل هذه الارتدادات المنافية لمنطق الأشياء كما يفترض؟ ولكن، ومع ذلك، نرى أنه مازال الأمر مبكراً للحكم على هذه التجارب الجنينية التي لا ننسى أن صناديق الاقتراع هي التي زكّتها، والعبرة دائماً بخواتيم هذه التوجهات التي إن استمرت، فإنها لن تصمد طويلاً أمام حقائق الحياة على الأرض .
 
30 مارس 2012