المنشور

الــــبابــــا شـــــنـــــودة


فقدت مصر وفقد العرب بوفاة البابا شنودة رئيس الكنيسة القبطية رمزا دينيا وطنيا و» قائداً روحيا عظيما, مؤمنا بالتعايش السلمي بين أصحاب الديانات, ومخلصاً لوطنه «حسبَ الأمين العام لمنظمة التعاون الاسلامي أكمل الدين أوغلو».
 
وبرحيل هذه القامة تثار من جديد مسألة الموقع الديني كأحد أهم وأخطر المواقع في المجتمع وأكثرها التصاقا وتماسا معه ومن حيث كونه رسالة تستمدّ قيمتها من ارتباطها بالعقيدة الدينية وبوجدان المؤمنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية.
 
ومنذ البداية ارتبط الموقع الديني بالسياسي سواء بالاندماج او بالتبعية أو التضاد, في خدمة السلطة السياسية أو بمحاربتها. وفي المرحلة التاريخية الراهنة فإن الموقع الديني يبقى في صلب معادلة النظام، الشعب، الدين. واذا كان الدين من حيث كونه هو عقيدة, يتصل بعلاقة المخلوق بالخالق إيمانا وطقوسا وسلوكاً فإن الموقع الديني كإطار وظيفي في خدمة العلاقة الإيمانية للمؤمنين بالمقدَّس, يؤثر ويتأثر بحركة المجتمع وعلاقاته وقواه السياسية والاجتماعية ومراكز القوى وطنية كانت أم أجنبية, فضلا عن التكوين النفسي والتربية الأسرية والموقع الطبقي والاجتماعي والمستوى التعليمي والثقافي والخبرة الحياتية.
 
وبالتالي يتحتم الفصل بين الدين والموقع الديني ومقاربة الأخير في إطاره الزمني وبارتباطه بالواقع الملموس بكل مكوناته كي نفهم أسباب التمايز والصراع لحد الاقتتال بين مختلف المواقع الدينية في الاديان والمذاهب المختلفة وضمن الدين والمذهب الواحد, واصطفاف البعض الى جانب الحق والعدالة والمساواة والانفتاح الاجتماعي والتسامح في حين ينحاز اَخرون الى الاستبداد والظلم الاجتماعي والتزمُّت والعنف.
 
وفي كل المراحل التاريخية شارك العديد من رجال الدين في النضال من أجل الحرية والاستقلال والسّلم العالمي والتقدم الاجتماعي وساهموا في نشر الفكر التنويري والحداثي وقدموا تضحيات جمّة في التصاقهم بهموم مجتمعاتهم وشعوبهم وفي الحفاظ على وحدة أوطانهم وسيادتها. بينما وقف اخرون في الضفة الأخرى في خدمة الغزاة والطغاة من كل لون, وهم اليوم يقودون حربا على كل ما هو تنويري وحداثي وتقدمي, وينقضّون على المكتسبات الحضارية والانسانية للشعوب وينشرون روح الكراهية ونهج العنف والاقصاء وينتجون فتاوى التكفير والقتل, ويعملون على تمزيق النسيج الوطني ويغتصبون لأنفسهم حصانة فوق القانون والمجتمع ويتحكمون في المنابر والفضائيات للتحريض واثارة النعرات والفتن باسم الدين وحقوق إلهية لا يستحقونها.
 
انهم يشرّعون لقانون الغاب ويعيشون زمنا لا يعرف الدساتير والحقوق الانسانية فينزلون العقاب بمن ليس معهم, فهم المشرعون والمُدعون والمحامون والمنفذون. هذا المنزلق عابر للأديان والطوائف فهم متساوون في ذلك أيا كان دينهم ومذهبهم, فالهدف واحد في التسلط والهيمنة والاستحواذ على المكاسب الدنيوية بينما هم يبيعون العامّة خيرات الاخرة على حساب روح التسامح والعفة والمحبة التي تنادي بها كافة الأديان.
 
لذلك نراهم يتسابقون اليوم على المناصب السياسية والحزبية موظِّفين في ذلك كل أساليب التدليس والرشوة بالمال وبمفاتيح الجنة والتهديد بعقاب الدنيا والآخرة.
 
ما أحوجنا اليوم لرجال دين يحملون في قلوبهم ومسلكهم بساطة الأولين ونزاهتهم ويردفون تطلعات شعوبهم نحو الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي وتعزيز السيادة الوطنية وحماية الأوطان من طمع الطامعين وخطر الحروب. ما أحوجنا الى العاقلين من رجال الدين الزاهدين في السلطة والمال والوجاهة الكاذبة, المؤمنين حقا بالتسامح والتعايش بين الطوائف والأديان والذين يوظفون الماضي لخدمة الحاضر والمستقبل وازدهاره وليس لتدميره.
 
البابا شنودة لم يكن رئيسا لطائفة او كنيسة بقدر ما كان أبا لكل أبناء مصر التي خدم في جيشها ودرس في جامعاتها ورفض التنازل عن سيادتها, واختلف مع النظام في منعطفات مفصلية من تاريخ مصر, ورفض زيارة القدس بتأشيرة اسرائيلية, وعارض كامب ديفيد, لكنه كان متسامحا ومنفتحا على المسلمين كما الاقباط وناضل للإبقاء على وحدة الشعب المصري في مواجهة التطرف ومحاولات التقسيم حتى حينما هُدمت وأُحرقت الكنائس, ورفض توظيف كنيسته وطائفته ورقة في أيدي المتربصين بوطنه في الخارج فكسب احترام شعبه والعالم.
 
31 مارس 2012