خسر نيكولا ساركوزي الاستحقاق الانتخابي الحاسم وانتصرت فرنسا، باستعادة نفسها فقامة الرئيس الخاسر قصيرة على هامة فرنسا العالية. انه أضعف رئيس عرفته فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وتبدو المقارنة صاعقة بينه وبين قامات كبرى حكمتها: الجنرال ديغول بما يمثله من ثقل في تاريخ البلاد، ومن مكانة في وجدان الفرنسيين كونه قائد المقاومة ضد الاحتلال النازي لفرنسا، ثم الرئيس التالي المقرب منه جدا جورج بومبيدو، ثم اليميني فاليري جيسكار ديستان، الذي انهزم أمام الاشتراكي فرانسوا ميتران عام 1981 الذي يعد أطول رؤساء فرنسا بقاءً في منصبه، ومن بعده عمدة باريس السابق جاك شيراك الذي التف حوله الفرنسيون كمصدٍ أمام التطرف العنصري ممثلاً في جان لوبان.
ومع أن لفرنسا بالذات يعود فضل اجتراح مصطلح اليسار في التعبير عن القوى الاشتراكية التي تولي قضايا العدالة الاجتماعية وحقوق الطبقات الكادحة والمتوسطة عناية أكبر، حين أيد عموم من كان يجلس على اليسار من النواب التغيير الذي تحقق عن طريق الثورة الفرنسية، المتمثل بالتحول إلى النظام الجمهوري والعلمانية، فإن فرنسا، التي منها انطلقت كومونة باريس، لم تعرف في تاريخها سوى رئيس اشتراكي واحد هو فرانسوا ميتران، وبفوز المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند ، أمس الأول، يكون التاريخ قد منح اليسار فرصة ثانية، بعد سبعة عشر عاماً من نهاية فرصتهم السابقة.
وفي كل الأحوال، يبقى ساركوزي باهتاً أمام كل رجالات الدولة الكبار الذين أقاموا في القصر الاسطوري” الاليزيه “، سواء كان الرئيس ديغولياً أو يمينياً أو اشتراكيا، وفي حال هزيمته المرجحة يكون الفرنسيون قد عاقبوه، بعدم تجديد الثقة فيه لولاية ثانية، لأنه جعل صورة فرنسا، في الداخل والخارج على حدٍ سواء، أصغر بكثير من تاريخها ودورها السياسي لا في أوروبا وحدها، وانما في العالم كله.
لا يتسم المرشح الاشتراكي الأقرب الى الرئاسة بالكاريزما التي كانت للرئيس الاشتراكي السابق فرانسوا ميتران، ولكنه استفاد من الأداء المتعثر لخصمه ساركوزي، الذي أخفق في كبح جماح البطالة المتفشية خلال خمسة أعوام له في الرئاسة، ورغم أن الأوساط المالية المتنفذة لا يروق لها برنامج الاشتراكيين القائم على زيادة الضرائب خاصةً على أصحاب الدخول المرتفعة لتمويل الانفاق والسيطرة على العجز العام، فان قاعدة انتخابية واسعة تدعم مثل هذا التوجه.
ومن وجهة النظر السيكولوجية فان المرشح الاشتراكي أفاد من المزاج الشعبي السائد في فرنسا الذي يمقت في ساركوزي استعراضيته وغروره الذي يبلغ حد العنجهية، والعائد، ولو بنسبة من النسب، إلى خلفيته كوزير سابق للداخلية، كان عليه ان يتحرر من أسلوب إدارته لها، ليتصرف كرئيس يليق بفرنسا، يعرف وزنها ومكانتها على الصعيدين الثقافي والسياسي، وكقوة دولية مسموعة الكلمة. أحد شخوص الدائرة الضيقة المحيطة بساركوزي وصفه منذ أيامٍ ثلاثة بأنه أشبه بعداء لن يعتبر السباق انتهى الا بعد النهاية نفسها، ولكن الحقيقة هي أن لديه فرصة واحدة من ست فرص. ضاعت فرصة ساركوزي الوحيدة. فرانسوا هولاند رئيساً لفرنسا. الاشتراكيون في الاليزيه!