المنشور

مركز الشرطة والجامع المحاذي


«نساء البساتين» ذاك هو عنوان رواية الكاتب التونسي الحبيب السالمي. رواية مهمة تجذب قارئها إلى صفحاتها جذباً، فهي رواية عن تونس، تونس ما قبل ثورة البوعزيزي، لكن من يقرأ الرواية يستطيع أن يفهم لماذا حدثت تلك الثورة، ويفهم أيضاً لماذا آلت الأمور في تونس بعد الثورة إلى ما آلت إليه.
 
مغترب تونسي يُدَّرس التاريخ والجغرافيا في إحدى ثانويات باريس هو بطل الرواية الحاكي، الذي يأتي إلى بلاده في زيارة لأقل من عشرين يوماً، ويقيم في شقة أخيه في أحد أحياء العاصمة. حي «البساتين، كما يطلق عليه في الرواية، ومن خلال عين وانطباعات هذا المغترب نستطيع أن نتعرف على ما حدث في المجتمع التونسي من تغيرات.
 
يرصد الكاتب تلك المتغيرات لا بعين روائي فقط، وإنما بعين سينمائي. انتابني الإحساس وأنا أطوي صفحات الرواية، أنها جاهزة لأن تتحول إلى فيلم جيد، من طراز فيلم” عمارة يعقوبيان “، إن الكاتب يطوف بنا لا في تفاصيل شقة أخيه التي يقيم فيها، ولا في بعض وجوه العمارة التي تقع فيها الشقة، وإنما أيضاً في الشوارع الرئيسية في العاصمة تونس، في سوقها العتيق، وفي مقاهيها.
 
انها رواية عن انكسارات الإنسان العربي وتمزقاته في تجليات تونسية، قلق بين هويات حداثية وتقليدية، يتحرك بينها الإنسان بحرية في اليوم الواحد، تارة هو في لجة سلوك مجتمع متحول، وتارة يعود أدراجه إلى ما ورثه من عادات وتقاليد. وهو يصف محيط شقة أخيه التي أقام فيها، يلح الكاتب على مراقبة مَعلمين بارزين، مركز الشرطة والجامع المحاذي، نظرة لماحة لمكانة سلطتين تتنازعان النفوذ، الدولة البوليسية والمؤسسة الدينية، علينا أن نفهم بعد ذلك كيف حدث انه عندما تصدعت الدولة البوليسية تحت وقع خطى الجماهير الهادرة التي أطلقها إلى شوارع تونس محمد البوعزيزي، كانت السلطة الدينية هي الأكثر جاهزية لقطف ثمار ما جرى. فرغم القمع الشرس، كانت تلك السلطة الدينية توسع دائرة نفوذها، مستغلة حقيقة أن التحديث، خاصة بعد تنحية بورقيبة، بات مفروضاً بسطوة الدولة، وليس نابعاً من بنى المجتمع التحتية، فيما يستغرق بسطاء الناس البحث عن لقمة العيش التي عزَّت بفعل إخطبوط الفساد الذي استشرى.
 
تحضر المرأة بقوة في الرواية، حسبنا أن نذكر باسمها:” نساء البساتين “، نعيمة امرأة الشرفة في الطابق الثالث من العمارة، يسرى زوجة أخ المغترب، شقيقتها الفاتنة، وسواهن: نساء يعانين التمزقات العنيفة بين الرغبات المختلفة: الرغبة في التمرد، وبين الميل إلى الانكفاء على الذات والغرق في الشؤون المنزلية في مجتمع لم يغادر ذكوريته رغم ما للمرأة، فيه، من وضع قانوني مميز تحسده عليها شقيقاتها العربيات في البلدان الأخرى.
 
ويظهر الكاتب مقدرة لافتة في التحليل السيكولوجي لشخصياته في أدق التفاصيل التي لا يرصدها بتلك العناية سوى الروائي والمحلل النفسي. الحبيب السالمي بهذه الرواية تأهل مرة ثانية ليكون ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، كما فعل ذلك في العام الماضي مع روايته: «روائح ماري كيلر». تلك إشارة إلى مدى النضج الذي بلغته الرواية في تونس التي ما انفكت تدهشنا بجديدها.
 
24 مايو 2012