المنشور

اومبرتو بوسِّي نموذج للسياسي النفعي

   
الحياة ليست شارع مستقيم من جنس الطرق السريعة المعبدة، وانما هي حافلة بكافة أنواع الدروب المستقيمة والأخرى المتعرجة والثالثة التي تُجبر مرتاديها على صعودها قبل هبوطهم منها في وجهتهم التالية..وهكذا دواليك. ولأنها كذلك فان عناصرها، ومنها الحياة السياسية في بلدان المعمورة قاطبة، فيها صعود وفيها هبوط.
الهبوط في دورة الحياة السياسية لا يختلف عنه في دورة الهبوط (الناعم أو الارتطامي) والركود في الاقتصاد. فهناك أيضا يُسجل هبوط في الأداء (السياسي) وهبوط في شعبية الحكومة أو الحزب الحاكم. وهذه الأجواء بالذات هي التي توفر البيئة “الخصبة” لظهور “صائدي” الفرص “البارعين” من النشطاء والساسة المغمورين الذين عادةً ما ينجحون في التقاط فرص هذه الأوقات النادرة وركوب موجتها وذلك بسرعة تقديمهم لأنفسهم كمنقذين لبلدانهم أو مدنهم أو أقاليمهم أو مجتمعاتهم من الأزمات الخانقة التي تعصف بها. وليس الايطالي اومبرتو بوسِّي سوى نموذج ساطع على هذه الظاهرة السوسيوسياسية التي يقترن بموجبها ظهور “المغامرين والفهلويين والشعبويين” على مسرح الأحداث وتصدُّر مشهدها بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تضرب بخناقها على كافة متنفسات المجتمع الرئوية.

امبرتو بوسِّي هذا السياسي الايطالي المولود في عام 1941 في لومباردي والذي بدأ حياته كنصير قوي للحزب الشيوعي الايطالي، أي متبنيا لفكر الوحدة الانسانية العابرة للأعراق والديانات والمذاهب وكل العصبيات الماضوية، كبيرها وصغيرها، سرعان ما تحول وانتقل الى أقصى اليمين ما أن امتهن النشاط السياسي. فقد استغل فضائح ما ذهب مصطلحا في القاموس السياسي الايطالي “تانجنتوبولي” (Tangentopoli) التي تكشفتت أسرارها خلال الفترة من 1992 الى 1996 وانهار خلالها الحزب المسيحي الديمقراطي العريق نتيجة لتورط قياداته في جرائم فساد واسعة النطاق، فركب موجة تلك الأزمة بتقديمه نفسه على انه سياسي جديد من خارج الطبقة السياسية الملوثة، وانه سيحارب الفساد وعدم الكفاءة في اعتلاء وتقلد المناصب. ووجد انه ليس افضل من هذه الازمة للدفع بحزبه الحديث التكوين (آنذاك) والذي كان أسسه في العام 1991 “حـــزب رابــــطة الشــــمال لاســــتقلال بادانيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا (Lega Nord for Independence of Padania)، لواجهة الاحداث من خلال استغلال مشاعر السخط التي تتفاقم عادةً ابان الأزمات واللعب على التغايرات الثقافية والنفسية التقليدية المتوارثة بين أهل الجنوب وأهل الشمال الايطالي وايقاظ نعراتها والنفخ فيها واشعال جذوتها. فكان هو وحزبه الانعزالي وراء تحميل أقاليم الجنوب الايطالي مسئولية تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسكان الشمال الايطالي، ووراء وضع ميلان الشمالية “المتحضرة” قبالة روما “المتخلفة”، حتى انه في احدى جولاته البحرية الاستعراضية الجماهيرية أطلق صيحته الشهيرة “روما اللصوصية” في محاولة لاعادة انتاج واحياء فكرة ربط الجنوب الايطالي بالمافيات وبالجريمة المنظمة. ويجدر أن نلاحظ بهذا الصدد ان اومبرتو بوسِّي وحزبه هما من استبدلا تسمية “وادي بو” (Po Valley) التي كانت مستخدمة حتى عام 1990 للدلالة على شمال ايطاليا الذي أراد بوسِّي تمييزه عن جنوبها “البائس” باسم بادانيا (Padania).

وتشاء الأقدار أن يتم الكشف قبل أيام عن تورط الرجل الذي كان حتى الأمس القريب أحد الرموز البارزة في الطبقة السياسية الايطالية الحاكمة والحليف القريب لرئيس الحكومة الايطالية المنصرف توا الملياردير سلفيو برلسكوني، حيث شغل عدة حقائب وزارية في حكوماته آخرها وزير الاصلاح الفدرالي حتى نوفمبر من العام الماضي – عن تورطه في أعمال فساد ونصب كان أحد أبنائه طرفا في احداها.

ولم تكن تلك المرة الأولى التي يُكشف فيها النقاب عن تورط هذا السياسي الايطالي المثير للجدل في قضايا الفساد التي يبت ويصدر فيها القضاء الايطالي أحكاما نافذة. فلقد سبق أن حكم عليه القضاء الايطالي وعلى المسئول المالي في حزبه “حزب رابطة الشمال” بالسجن 8 أشهر مع وقف التنفيذ بتهمة تلقيهما وقبولهما رشوة بقيمة 200 مليون ليرة ايطالية، وهي القضية التي أُدين فيها العديد من السياسيين الذين طالما هاجمهم بوسِّي واتهمهم بالفساد ومنهم بتينو كراكسي رئيس الوزراء الايطالي الأسبق وارنالدو فورلاني.

في الخامس من ابريل الماضي استقال اومبرتو بوسِّي من منصبه كسكرتير فدرالي لحزب رابطة الشمال على اثر قيام الادعاء العام الايطالي بتوجيه اتهامات له باستغلال أموال حزب رابطة الشمال في أعمال عائلته الخاصة ومن بينها اعادة تجديد وتحديث منزله. وعلى الفور سارع حزبه لمنحه الرئاسة الشرفية الحزب!
كثيرون من المثقفين الايطاليين الملتزمين توقعوا هذا المآل الحتمي لذاك الأراجوز الذي تقافز على أوجاع الناس وضائقاتهم المعيشية. بل لربما توقعه المؤسس الأول نفسه للمدرسة الانتهازية والنفعية في السياسة الايطالية والعالمية وأحد أشهر وعاظ السلاطين في القرن السادس عشر، أي، ويا للغرابة، ابان عصر النهضة، ونعني به نيكولو ماكيافيلي صاحب كتاب “الأمير”. وكما أسلفنا فان الأسواق السياسية لأمثال هؤلاء من ركاب الموجة تزدهر رواجا ابان الأزمات التي تعصف دوريا بالمجتمعات. وليس أفضل من الأوضاع المتأزمة التي يشهدها عديد الساحات العربية للقفز في الصفوف الأولى ونثر بضاعتهم هنا وهناك علَّ الحظ يحالفهم وينالوا قسطا مما ناله الايطالي اومبرتو بوسِّي. ولو أجلنا النظر قليلا فيما يدور حولنا الآن فسنرى ان هذا ما هو حاصل بالتمام والكمال.