يمكن قراءة الموقف الروسي، وبنسبة أقل الموقف الصيني، من النزاع في سوريا،
بمعزل عن تحولات الحرب الباردة التي طبعت العلاقات الدولية بعد نهاية
الحرب العالمية الثانية حتى لحظة تفكك الاتحاد السوفييتي في مطالع تسعينات
القرن المنصرم، بين النظامين السياسيين الاجتماعيين المتضادين: الرأسمالي
والاشتراكي . لقد تغيرت أمور كثيرة، فالأنظمة الحليفة للروس في الشرق
الأوروبي انهارت، ومحلها جاءت أنظمة تسابقت للانضمام للناتو وللسوق
الأوروبية المشتركة، ونزعت الصفة السوفييتية عن السلطة في الكرملين، ولكن
الحرب الباردة لم تنته، ورغم ما وسم السياسة الخارجية لروسيا، في حلتها
الجديدة، من تقلبات وتعرجات، فإن الفشل كان نصيب الوهم الذي استحوذ على
بوريس يلتسين، أول رئيس لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بإمكان
انعطاف روسيا غرباً، والتنكر لنهجها الذي ورثه البلاشفة عن الإمبراطورية
القيصرية بإيلاء البعد الآسيوي للنفوذ الروسي أهمية فائقة، لا تقل عن بعده
الأوروبي .
المؤكد
أن الأعباء على روسيا تضاعفت وهي تسعى للتمسك بسياستها الخارجية التقليدية
المناوئة للهيمنة الغربية على مواقع النفوذ في العالم، فعدد الدول الحليفة
لها تناقص بشكل مهول، وأصبح للغرب مواقع نفوذ في الحدائق الخلفية لموسكو،
نعني بذلك العديد من جمهوريات الاتحاد السوفييتي المنهار، وأصبح الفضاء
السوفييتي السابق في آسيا ساحة لنشاط القوى الإسلامية المتطرفة، التي تمددت
إلى بعض جمهوريات الفيدرالية الروسية ذاتها، كما هو حال الشيشان .
ورغم
الانتعاش الذي شهده الاقتصاد الروسي جراء ارتفاع أسعار النفط في السوق
العالمية، فإن الجبروت الاقتصادي السوفييتي لم يعد قائماً، وإلى ذلك فإن
روسيا الجديدة، وهي تسعى لمحاكاة السياسة الخارجية السوفييتية، فقدت أحد
أهم عوامل جاذبيتها الأيديولوجية يوم كانت صورة الاتحاد السوفييتي في
البلدان النامية صورة الحليف الداعم لحركات التحرر الوطني والأنظمة
المناوئة للنفوذ الغربي، حيث حلت محلها، إلى حدود بعيدة، مجرد صورة البلد
المورد للأسلحة والتقنيات العسكرية للراغبين في اقتنائها والقادرين على
شرائها .
فعلى
سبيل المثال، يفترض بعض محللي السياسة الخارجية أن مبيعات الأسلحة الروسية
لسوريا تقف في خلفية الدعم الروسي للنظام السوري، حيث يجري تداول تقارير
عن مشتريات أسلحة سورية من روسيا بقيمة 5 .3 مليار دولار، بالإضافة إلى
القاعدة البحرية الروسية في ميناء طرطوس، لكن هذا، على أهميته، ليس سوى جزء
من الحقيقة، فمحللون روس وأجانب، يرون أنه إضافة إلى هذا البعد المهم، فإن
الموضوع مرتبط بالسياسة الروسية الداخلية أيضاً والمواضيع التي تشغل
الطبقة السياسية في روسيا التي تريد القول للدول الغربية إنه يجب عدم تجاهل
دور روسيا ومصالحها في أي ترتيبات مستقبلية للوضع في الشرق الأوسط، وفي
غيره من المناطق الحيوية، وتخشى أن تطالها هي نفسها هذه التغييرات من بوابة
الدمقرطة وحقوق الإنسان بالذات .
ومنذ
العملية العسكرية التي نفذتها قوات حلف شمال الأطلسي في يوغوسلافيا
السابقة عام 1999 فقدت موسكو الثقة “بالخطاب الإنساني” للحكومات الغربية
وترى أنه تمويه للنوايا الحقيقية لتغيير الأنظمة، وهو ما تعزز بملابسات
إسقاط نظام القذافي في ليبيا، الذي كان متعذراً لولا الدعم العسكري
واللوجستي الغربي، ومن هذه الزاوية يمكن فهم تصريح وزير الخارجية الروسي
لافروف بأن روسيا خُدعت في ليبيا . الحرب الباردة تغيرت في بعض مظاهرها،
ولكنها، في الجوهر، لم تنته .