بعض الباحثين حللوا الشق الاجتماعي الاقتصادي في برامج القوى الإسلامية التي صعدت إلى السلطة، أو حققت نجاحات لافتة في الانتخابات التي شهدتها بعض البلدان العربية، ولاحظوا أنه من حيث الجوهر لم تقدم هذه القوى برنامجاً مختلفاً عن ذلك الذي كانت الأنظمة السابقة تطرحه، من حيث العلاقة مع قضايا التنمية والتبعية، ومعالجة المشكلات المعيشية الحادة كالفقر والسكن وفرص العمل والتأهيل المهني وغيرها .
لذا، فما يبدو نجاحاً قد يتحول مع الوقت إلى مأزق، حين تنتظر الجماهير الغفيرة التي منحت أصواتها لهذه القوى تحسناً ملموساً في أوضاعها فلا تجده، وحين تشعر القوى الحديثة بأن ما تحقق بفضل تحولات مديدة في مجتمعاتها من منجزات تتعرض لمخاطر المصادرة من قبل القوى الصاعدة مؤخراً، وحين يطرح المجتمع على نفسه أسئلة كبرى عن مآل الأمور .
منذ شهور خلتْ سمعتُ زعيماً يسارياً مصرياً يروي أنه التقى في إحدى المناسبات، أحد قيادات حزب الحرية والعدالة “الإخوان المسلمين” في مصر فهنأه على النتائج المتقدمة التي كان ” الإخوان ” قد أحرزوها في انتخابات مجلس الشعب، قبل أن يجري حله عشية الانتخابات الرئاسية، فبادره الزعيم الإخواني بالإجابة: ” تُهنئنا على ماذا؟ هذه النتائج ألقت علينا أعباء كبيرة، فحجم المشكلات في البلد كبير، وعلينا أن نثبت قدرتنا على تقديم الحلول لها” .
هذا القول يختصر فكرة جوهرية تحتاج إلى شرح طويل، ذلك أن أقوى سند قُدم ويُقدم لبعض القوى غير الديمقراطية في بنيتها الفكرية والسياسية، هو إبقاؤها في خانة المعارضة، وعدم الدفع بها لأن تضع ما تعد به من برامج على محك الاختبار الفعلي، لأنه من السهل جداً رفع الشعارات المعارضة، والذهاب بها إلى أقصى الاحتمالات، لكن المعضلة تنشأ حين يصبح المعارضون في السلطة، حيث يتعين عليهم إثبات أنهم قادرون على تصحيح الأخطاء والتجاوزات التي كانوا ينتقدونها .
إزاء وضعٍ كهذا، يتأكد صواب الفكرة التي نحن بصددها، وهي أن الرهان في هذه الحالات هو على الآليات الديمقراطية نفسها، لكي توفر فرص تغيير الخيارات الخاطئة، وتمكين الناس أنفسهم من إعادة توجيه المخرجات الانتخابية في مدار آخر، وهو يضع على عاتق القوى الديمقراطية تحدي قيادة التحرك ليس فقط من أجل التغيير، وإنما أيضاً من أجل ألا تمس الآليات الديمقراطية للتغيير، ومن ضمنها الانتخابات الحرة والشفافة .
للهروب من الاستحقاق الديمقراطي ثمة من كان يُردد ومايزال، أن لنا ديمقراطيتنا، ولا يمكننا مجاراة شكل الديمقراطية في الغرب، ويذهب الغلو ببعضهم ليقول انظروا ماذا فعلت الديمقراطية في لبنان: لقد أحرقته، لكن ليست الديمقراطية هي من أحرق لبنان، وللدكتور سليم الحص مقولة مأثورة في هذا المجال هي: ” في لبنان الكثير من الحرية وفيه القليل من الديمقراطية” .
الراحل الدكتور إسماعيل صبري عبدالله ردّ مرة على الأطروحات القائلة إن ديمقراطية الغرب لا تناسبنا بحجة دامغة، حين قال ما معناه: فليكن الأمر كذلك، شريطة ألا يكون البديل هو غياب الديمقراطية . ليست الشعوب هي من يتحمل غياب الثقافة الديمقراطية، إنما الحكومات، فالتطاول على فضاءات المجتمع المدني الحديث ومصادرتها كاملة، حال دون المجتمع في أن يكون قوة متكافئة مع الدولة، يراقبها ويُصحح أخطاءها، ما أسهم في تمكين القوى غير الديمقراطية في المجتمع، ومكنها من جني ثمرة التغييرات .