المنشور

ميكافيللية الحاضر



يقال
إن محمد علي باشا وهو يسعى إلى تنفيذ مشروعه النهضوي في مصر، طلب من
مترجمين محترفين ترجمة كتاب »الأمير« لميكافيللي لكثرة ما سمعه عن الكتاب
ولرغبته الملحة في الاستفادة من دروسه . ولشدة لهفة محمد علي إلى معرفة
مضمون الكتاب، طلب من المترجمين موافاته أولاً بأول بكل فصل من الكتاب
ينتهون من ترجمته، لكن بعد أن قرأ بعض الفصول طلب من المترجمين إيقاف
ترجمته، وقال قولة شهيرة: »إنني أفهم في دواهي السياسة أكثر مما هو مذكور
في الكتاب« .


لم
يكن محمد علي باشا إذاً، بحاجة إلى أن يتعلم شيئاً من ميكافيللي لأنه
يمارس في الحياة ما هو أهم وأخطر مما يقوله الكتاب . وإذا كان محمد علي
باشا عاش وحكم بعد ميكافيللي، فهل كان أولئك الذين عاشوا قبله من الملوك
والقادة والحكام والطغاة لا يعرفون ولا يطبقون المبدأ الذي نسبه إليه:
»الغاية تبرر الوسيلة«؟ . . ألم تكن السياسة، منذ أن نشأت قائمة على هذه
القاعدة قبل ميكافيللي وفي زمنه ومن بعده؟


نادرة
جداً هي الحالات التي اقترنت فيها السياسة بالأخلاق، يمكن أن نذكر هنا
حالة المهاتما غاندي في الهند، ونيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، بينما
القاعدة أن السياسي حين يحدد الهدف نصب عينيه لا يكترث كثيراً بالوسائل،
وتكفي نظرة منصفة إلى التاريخ لترينا ذلك بشكل ساطع، حتى الثورات الكبرى
التي غيرت مجرى التاريخ، مارست من العنف ما لا يقل عن ممارسات الطغاة من
الحكام الذين ثارت عليهم، حسبنا هنا أن نتذكر سنوات الإرهاب العاصفة التي
تلت الثورة الفرنسية وحروب نابليون، وأن نتذكر كذلك الظاهرة الستالينينية
وفظائعها .


يعتقد
الدكتور جلال أمين، محقاً، أن المبدأ الأساسي في كتاب ميكافيللي لم يكن
»الغاية تبرر الوسيلة«، بل إن الخيط الناظم لمحتويات الكتاب إنما يركز على
كفاءة الوسيلة، كفاءة الأداء، وأن ما جرى تداوله وإشاعته من أن »الأمير«
كان يركز على أن الغاية يجب أن تكون نبيلة، فيما الوسيلة ليست مهمة مادامت
ستفضي إلى هذه الغاية النبيلة، ليس صحيحاً، وأن مركز الثقل في الكتاب هو
جودة الأداء والوسيلة وسبل تفعيلها، أي جعلها فعالة، ولم يكن معنياً من
قريب أو بعيد بنبل أو عدم نبل الغاية، فتلك لم تكن منطقة اهتمامه، وليست
داخلة في دائرة بحثه، فضلاً عن أنه لم يكتشف مبدأ لا يعرفه سابقوه، فهذا
المبدأ كان دائماً قيد التنفيذ، لكن الجزء المتصل بكفاءة أو جودة الأداء
بصرف النظر عن طبيعة الغاية، هو جوهر السياسة الرائجة في عالم اليوم .


إن
المجتمع الدولي من خلال مجلس الأمن مثلاً، لا يناقش أن فكرة شن حرب من
الحروب، أياً كانت الذرائع، هي في الجوهر فكرة غير صحيحة، لأنها تعني شن
حرب غير عادلة، أو حرب لا ضرورة لها من وجهة نظر إنسانية وحضارية، وإن
أهدافها غير مشروعة فضلاً عن كونها غير نبيلة، إذا ما توخينا اعتماد
التفسير الدارج للميكافيللية التي أصبحت دون منازع فلسفة الحقبة الدولية
الراهنة . وما يقال عن الحروب يقال عن أشكال العقوبات الأخرى كالعزل
والحصار وسواها .  ولم يسبق أن بلغ العالم هذا المقدار من »الميكافيللية« التي لا تقيم وزناً إلا للمصالح الأنانية لمن يقود عالم اليوم .