المنشور

بعبع التهديد الخارجي

بنيت المجتمعات الخليجية على هيكلية فريدة يحكمها الولاء القبلي،
وفقاً لأعراف “شيوخنا أبخص” التي تجعل من شيخ القبيلة الآمر الناهي في
مجتمعه، وتجعل من أفراد المجتمع معتاشين وفق لأحكام المنة و العطية
والمكرمة.

حاولت حكومات الخليج عزل شعوبها عن كافة التطورات التي مر  بها العالم
مستغلة في ذلك عامل الصدفة الذي جعل من تلك الصحراء الجرداء صندوقاً لأغنى
كنوز العالم. إلا أن الهبة القومية التي قادها جمال عبدالناصر في خمسينيات
القرن الماضي، أسفرت عن أولى الاختبارات الحقيقية لمشروع حكم القبيلة، حيث
هزت انتفاضات شعبية متعددة في المنامة، وثورة ما يعرف بظفار وشبه الجزيرة
العربية التي اتخذت عمان منطلقاً لها، هزت قواعد هذا الحكم، لكنها لم تنجح
بالإطاحة به.

وكما سبق وذكرنا، لم يساهم عامل الصدفة التاريخية في خلق صراع طبقي
حقيقي يختبر متانة قواعد هذه الأنظمة، بسبب الطفرة النفطية التي ازدهرت في
السبعينات مما أعان الحكومات القبلية على التغلب على العقبات الاقتصادية
والاجتماعية التي كادت تواجهها.

ولما لاحت في الأفق ثورة ما يعرف “بالجمهورية الإسلامية الإيرانية”
 أشتد الاستقطاب المذهبي وبلغ ذروته، خصوصاً بعد أن كانت السعودية تستخدم
القوى الوهابية لخلق استقطاب مضاد.

وطيلة ثلاثة عقود أو أكثر تناما الاتجاه الأصولي الطائفي، مقابل تهالك
مشروع اليسار الأممي والقومية العربية وحركات التحرر العربي أجمالاً  وفقاً
لظروف دولية وإقليمية، ونتيجة لحملات قمع شرسة طالتهم من قمة هرمهم إلى
عمق قاعدتهم الشعبية.

كانت نتيجة تنامي الحركات الأصولية إسلام شكلي، لا يطال سوى القشور،
ومجتمعات ركيكة، خاوية من مضامين الحراك السياسي والنقابي، ووعي استهلاكي
لا يسعى لشيء سوى اللحاق بأحدث السلع والمنتجات التي يغويه بها السوق.

 لكن العولمة التي جاءت بثقافة السوق، أتت بسلاح مضاد هو الثورة
المعلوماتية التي ألغت كل الحواجز الجغرافية والزمنية، وحررت العالم من
سلطة الرقيب.

هذه الثورة المعلوماتية المتمثلة في الإعلام الالكتروني، وفي الطفرة
الفضائية شكلت وعياً جديداً لدى شريحة واسعة من الشعوب العربية. ولما أعلنت
شارة الاستحقاق التحرري من جديد بعد أن سقط البنعلي، كانت الشعوب العربية
تثور في الميادين تباعاً، مستلهمة تحررها من تجارب بعضها بعضا .

 قبل ذلك كانت البحرين تعيش استراحة قصيرة، أنتجها ميثاق العمل الوطني
الذي استفتى فيه الحكم شعبه عام 2001، معلناً قطيعة مع مرحلة دامت ثلاثة
عقود من قانون “أمن الدولة” لكن التمسك  بهذا الاستحقاق الإصلاحي ما لبث أن
تراجع إلى أدنى مستوياته بعد أن أثيرت في منتصف العقد الماضي ما عرف بـ”
فضيحة البندر” وهو تقرير مسرب يشير إلى أن بعض الأجهزة التنفيذية في الدولة
تعمل على بث مشروع طائفي بعد أن تمكنت “المعارضة الشيعية” من السيطرة على
الدولة.

بلغت النعرات الطائفية أعلى مستوياتها في المنطقة، خصوصاً بعد الاحتلال
الأمريكي للعراق وتوسع النفوذ الشيعي في دوائر الحكم العراقية. ولعل
الطريقة التي أعدم بها الرئيس السابق صدام حسين والتوقيت، شكلا عاملاً
مهماً في تصاعد هذه النعرة الطائفية، فصدام حسين الرئيس “السني” الذي اسقط
حكمه المحتل، اعدم شنقاً في صبيحة عيد الأضحى، على يد مجموعة من الملثمين
الذين هتفوا مقتدى مقتدى مقتدى – رئيس التيار الصدري مقتدى الصدر – ولعل
الأسلوب والتوقيت وحدهما كفيلان بإثارة الشكوك، و إذكاء نظرية المؤامرة.

لم تكن البحرين بعيدة عن هذا السعار الطائفي فما حدث في العراق ألقى
بظلاله على البحرين، و إن كان “السلام السلبي” سائداً بين المكونات الشعبية
لكن ما في الصدور كان بركاناً ينذر بانفجار كبير.

اشتعلت شرارة الانتفاضة في البحرين إلكترونياً وسرعان ما دخلت حيز
التنفيذ شعبياً بعد ثورتي تونس ومصر، لأن الشباب البحريني الذي كان ينتظر
الأمل القادم بفجر جديد، بدء يفقد الثقة في مشروع السلطة الإصلاحي الذي لم
يستطع حل مشاكل البطالة وأزمة السكن، والغلاء المعيشي، بل والفساد الإداري
والمالي، والتمييز الطائفي في التوظيف، علاوة على المطالب السياسية الأكبر
والأعمق كتلك المتعلقة بالتعديلات الدستورية التي تحصر التشريع في الغرفة
المنتخبة، وتعديل الدوائر الانتخابية لتتناسب مع حجم التوزيع السكاني بدلا
من التوزيع الجغرافي، كما مطلب الحكومة المنتخبة.

لكن تلك الانتفاضة أريد لها أن تسقط لأن البحرين في خاصرة المملكة
العربية السعودية التي وحدت أطرافها المتنامية بحد السيف قبل 80 عاماً من
اندلاع انتفاضة 14 فبراير في البحرين، ولأن سقوط النظام البحريني أو أحداث
إصلاح جذري في تركيبته، قد يحدث تتابعاً تسلسلي من المحتمل أن يغير شكل
المنطقة.

العنصر الديموغرافي في البحرين هو الحلقة الأضعف، “أكثرية شيعية ونظام
حاكم سني” يجسدان لب الصراع في المنطقة المتمثل في المحور الإيراني مقابل
المحور الخليجي. ولأن النظام يدرك تمام أن البحرين مهيأة لهكذا تجييش سخر
إعلامه بشكل دعائية أثار هواجس وجودية لدى الطائفة السنية، حيث تناول
الإعلام الرسمي ما يحدث في الشارع على أنه مخطط إيراني لقلب نظام الحكم.

تزامن ذلك مع حوادث “ممنهجة” لهتك السلم الأهلي، حادثة مشاجرة بين أطفال
في مدينة حمد، تتحول إلى عراك طائفي بالسلاح الأبيض، وتستمر الدعاية هنا
وهناك حتى تتلاحق الأحداث بشكل متسارع لم يمكن المعارضة من إعادة تموضعها.

وكان الانفجار الأكبر بعد دخول “قوات درع الجزيرة” المدججة بسلاحها وعتادها لتنهي اللعبة، وتعطي الضوء الأخضر لمرحلة دامية من القمع.

سرعان ما تمكنت حكومات الخليج من ركب موجة الثورات وتجييرها لتعزيز
هيمنتها على الحكم، عبر افتعال أن ما يجري هو مؤامرة دولية تهدف إلى تفتيت
الخليج على أساس دويلات  طائفية، وجير الجمهور ليصدق أن الإدارة الأمريكية –
الحليف التاريخي لحكومات الخليج – هي ما يدير هذه اللعبة.

المتتبع للشأن الخليجي يدرك أن هناك تراجعاً كبيراً على مستوى المكتسبات
السياسية، وعلى مستوى سقف الحريات العامة إجمالاً، ففي البحرين أغلق
النظام باب الحوار مع المعارضة، واختار الحل الأمني، عبر سجن المحتجين في
الشوارع، وحل بعض الجمعيات السياسية، وقبلها إغلاق النشرات الحزبية لجمعيات
السياسية، فيما يستمر الإعلام الرسمي بتصوير المعارضين بالخونة والعملاء
لإيران وللمؤامرة الغربية، وفي الكويت يدور صراع سياسي كبير يبدو انه وصل
إلى لحظته التاريخية، حيث يحاول النظام جاهداً لتغيير قواعد اللعبة
السياسية التي تعطي البرلمان الكويتي صلاحيات متينة، تتعارض مع نهج
المشيخة”، وفي الإمارات وعمان وقطر والسعودية تسجن النخبة التنويرية بناء
على آرائها الفكرية والسياسية، وفق حججاً مختلفة لعل أكثرها إلتصاقاً
بموضوعنا ما ساقه مدير شرطة دبي ضاحي خلفان من روايات حول خطر حركة الإخوان
المسلمين على الخليج، مصوراً كل ما يجري في الإمارات من حراك يهدف إلى رفع
سقف حرية الرأي والتعبير والمشاركة الشعبية، على انه مؤامرة أمريكية
لتغيير المنطقة تدار بسواعد إخوانية.

وبالرغم من أن المحصلة الإجمالية للربيع الخليجي تساوي مزيداً من القمع،
إلا أن هناك عاملاً فاصلاً لا تملك الأنظمة القدرة على تغييره، وهو أن
جزءاً كبيراً من شعوب هذه المنطقة صار غير قابل للإخضاع بعد أحداث الربيع
العربي.