المنشور

“أندلسات”جديدة



كان المستشرق الفرنسي جاك بيرك قريباً جداً من روح وجوهر الحضارة العربية الإسلامية وعاشقاً للغة العربية، ممسكاً بما فيها من جمال وهو القائل إنه حين ينطق العربية يستمتع بنوع خاص من اللذة الحسية والروحية معاً، فهي لغة ساحرة ومتفردة ومتألقة تمكن العرب من خلالها أن يخلقوا من الصحراء والفراغ قوة ذات إشعاع حضاري كبير، لذلك دعا إلى إقامة أندلس جديد، أو مجموعة أندلسات جديدة تلتقي فيها الحضارتان الأوروبية المسيحية والإسلام، أي التقاء الضفتين، ورأى وهو الرجل العلماني في الإسلام هوية للعرب، وفي الاستشراق حوار بين ثقافتين، لذلك أصرّ على التعامل مع الواقع الحي لا مع النصوص .


من يتأمل الواقع الراهن ستبدو له هذه دعوة طوباوية، فلا العرب ولا أوروبا في وارد تشييد مثل هذه الأندلسات من تعايش الأديان وتحاور وتفاعل الثقافات، فعلى ضفتنا العربية نبدو، أكثر ما كنا عليه، مسكونين بعقدة الآخر التي تتجلى في موقفين متعاكسين تماماً ولكنهما يؤديان إلى النتيجة نفسها: أوّلهما النظر إلى الآخر باستعلاء، بزعم أننا نمتلك كلّ الأجوبة عن كلّ الأسئلة، وكل ما هو خارج ثقافتنا فهو منبوذ وكافر ومادي، وثانيهما: هو الشعور بالدونية إزاء ثقافة الآخر وتطوره، حيث ينقصنا في علاقتنا مع هذا الآخر الشعور بالندّية، ناسين أن الحضارة العربية الإسلامية في مراحل ازدهارها لم تجد حرجاً من التعامل مع الثقافات الأخرى والتعلم منها، وإقامة التلاقح بينها وبين ثقافتهم على نحو ما فعلت مع ثقافات السريان والروم والفرس واليونان وغيرهم .


لقد أخذت فترة الفتوحات الإسلامية الكثير من الحضارات السابقة، واكتسبوا منها العلوم والفنون وحتى نمط المعيشة، ومن أسباب قدرة الثقافة والحضارة العربية الإسلامية على النجاح والبقاء طويلاً لقرون، هو قدرتها على الاندماج والتفاعل مع الثقافات الأخرى من دون عقدة، فلم ينظروا إليها على أنها عناصر دخيلة على الإسلام والثقافة العربية، على خلاف ما يجري الحديث عنه في زمن الردّة الراهن عن كلّ قادم من الخارج بصفته عنصراً دخيلاً .


لكن ليس العرب والمسلمون وحدهم مسؤولين عن هذه القطيعة الحضارية، فالغرب هو من يُروج اليوم لفكرة صراع الحضارات التي هي في الجوهر صناعة غربية، على خلاف المتوقع من الغرب “الليبرالي«، حيث تلتقي دعوات الانعزال عندنا مع نظيرتها في الغرب: تطرف في ثقافتنا يقابل تطرفاً آخر داخل الغرب الذي أضفى اللبوس الفكري والفلسفي على مثل هذه الدعوات عبر أفكار صراع الحضارات و”الإسلاموفوبيا”ونهاية التاريخ، وجرى التنكر لتراث التسامح والحرية وقبول الآخر التي عليها قامت النهضة الأوروبية الحديثة، وحين وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وجدت لها العدة النظرية الفلسفية الجاهزة لتفسيرها وتسويقها عن خطر الإرهاب الآتي من الشرق، ومن المسلمين بدرجة أولى، وهو ما مثل الخطاب الأيديولوجي للسياسيين والعسكر في الولايات المتحدة في تبرير حروبهم وتدخلاتهم . 


كان جاك بيرك في دعواته إلى “أندلسات”جديدة يعول على طاقة الثقافة في إعادة الاعتبار إلى مفهوم حوار الحضارات وتفاعل الثقافات والأديان، والتأكيد مجدداً أن الثقافة العالمية في النهاية هي ثقافة واحدة ولكن بروافد مختلفة، أي على نقيض الفهم الضيق للعولمة الثقافية التي تسعى إلى تنميط الثقافات في نسق ثقافي واحد، هدفه فرض الهيمنة، بديلاً للتنوع الذي لا يلغي الوحدة، والوحدة التي تستوعب التنوع .