المنشور

خلدون النقيب



بدعوة
من مؤسسة سلطان العويس في دولة الإمارات العربية المتحدة، شاركتُ في ملتقى
علمي عقد في دبي منذ يومين عن مساهمات عالم الاجتماع الخليجي الراحل
الدكتور خلدون النقيب بورقة عن رؤيته الاستشرافية للتطورات العربية
الراهنة، حيث كان واحداً من أهم العقول العربية التي تنبأت بها، ولم تسعف
الأقدار خلدون النقيب ليعيش أطول، ويشهد التحولات العربية خلال العامين
الماضيين، فقد وافته المنية لحظة اندلاع هذه الأحداث، ولم يقدر له أن يرى
المسارات التي إليها اندفعت، ولا نتحدث هنا عن مآلاتها النهائية، فالحديث
عن ذلك مازال مبكراً، نظراً لحالة السيولة والفوضى التي يبدو أن العالم
العربي سيعيشها لفترة قد تطول . ولكن لو قدر للنقيب أن يعيش أطول، لرأى،
كما نرى نحن، كيف أن استشرافاته للمستقبل العربي التي رسمها في خلاصة بحوث
معمقة وجدت طريقها إلى التحقق، على الأقل في خطوطها أو معالمها الرئيسة .


كانت
أطروحة خلدون النقيب عن الشكل التسلطي للدولة مدار اهتمامه البحثي، وعلى
خلاف الكثير من الدارسين الذين مالوا إلى توصيف الدولة الريعية، فإن خلدون
النقيب يرى أن هذا المفهموم قاصر عن الإحاطة بمحتوى الدولة موضوع التوصيف،
فالدولة الريعية، برأيه، ما هي إلا مرحلة انتقالية للفترة منذ اكتشاف النفط
حتى منتصف ستينات القرن الماضي نحو عصر الدولة التسلطية، رغم أنه لا يراها
مرحلة انتقالية ضرورية، فهناك طرق مختلفة تقود إلى الدولة التسلطية، فقد
دخلت كل من مصر وسوريا والعراق منذ أواخر الخمسينات عصر الدولة التسلطية عن
طريق الانقلابات والتأميمات وبقرطة الاقتصاد، وليس عن طريق الدولة الريعية
. والتفريق بين الدولة الريعية والدولة التسلطية ضروري جداً من وجهة نظر
النقيب، فالدولة الريعية تصف جزئية محدودة من النظام الاقتصادي تتعلق
باعتبار أن مصدر الدخل الوطني يأتي بشكل الريع الخارجي، وتتعلق بالدور الذي
يلعبه الريع في الإنفاق الحكومي وما يترتب عليه من نتائج . وعند هذا الحد
تقف أهمية هذا المفهوم، بينما الدولة التسلطية تمثل نظاماً سياسياً مميزاً
في منظومة أشكال النظم السياسية الاستبدادية عبر التاريخ، وتمثل الدولة
التسلطية نظاماً اقتصادياً متكاملاً يطلق عليه رأسمالية الدولة التابعة .


وخلافاً
لكل أشكال الدول الأخرى، فإن الدولة الاستبدادية تحقق الاحتكار عن طريق
اختراق المجتمع المدني وتحويل مؤسساته إلى تنظيمات تضامنية تعمل كامتداد
لأجهزة الدولة، كما أنها تخترق النظام الاقتصادي وتلحقه بالدولة، بما يقود
إلى رأسمالية الدولة التابعة، حيث تقوم الدولة بالاستيلاء على الفائض
الاجتماعي وعلى فائض القيمة بدلاً من الرأسماليين الأفراد، وهي تابعة لأنها
تدخل في علاقات اقتصادية وسياسية غير متكافئة مع الدول الأخرى، أما
الخاصية الثالثة للدولة التسلطية فهي أن شرعية الحكم فيها تقوم على استعمال
العنف أكثر من اعتمادها على الشرعية التقليدية .


وفي
هذا التوصيف كان النقيب ينطلق من قناعة مؤداها أن جذور الأزمة راسخة في
بنية النظام الرسمي العربي، محذراً من أن عدم معالجتها سيؤدي إلى اندفاع
الأمور نحو انفجارات اجتماعية كبرى، ونحو تفكك كيانات، ونحو أشكال من
النزاعات المذهبية والطائفية وسواها، وستفتح مثل هذه الانفجارات أخطر
الاحتمالات المتوقعة، وحتى غير المتوقعة، من تدخل إرادات خارجية، دولية
وإقليمية، إما لأنها ترغب في تكييف التغييرات واحتوائها بما يخدم مصالحها،
وإما أن تبحث عن أدوار وأوراق ضغط ومساومة، على نحو ما نشاهده حالياً .