المنشور

فُرجة السيرك في المدينة المشتعلة



حين
أدرك امبراطور روما نيرون أن مركز الامبراطورية، العاصمة روما، قد أخذ
يهتز تحت الضغوط القادمة من أطرافها، قرر إحراق العاصمة في العام 64 بعد
الميلاد، ولكي يهدىء النفوس الثائرة رفع شعار الخبز وألعاب السيرك . كان
الخبز مازال متوفراً في العاصمة، فيما تدبير أمر ألعاب السيرك ممكن . دفع
بالآلاف من الشبان المسيحيين آنذاك إلى ساحات المبارزة يذبح بعضهم بعضاً أو
تفتك بهم الحيوانات المفترسة في ألعاب السيرك المفتعلة، بينما شعب روما
المخمور يتفرج ويلهث ويصيح فرحاً ومتعة فوق المدرجات .


هذه
الحكاية ستغدو مثالاً يروى كلما دار الحديث عن ما اصطلح على تسميته ب
“إلهاء” الرأي العام عن أحداث كبرى أو فاجعة تجري حوله، ويراد لهذا الرأي
العام أن ينصرف عنها نحو أمور مسلية عملاً على القاعدة السيكولوجية التي
تقول إن الناس بالسليقة أميل الى المفرح والمبهج والمسلي منها إلى المحزن
والمفجع والباعث على النكد . وإلى هذه الحكاية أيضاً عاد الراحل الدكتور
أنور عبد الملك مرة ليحلل الأداء الراهن للإعلام عامة، والإعلام في بلداننا
العربية بصورة خاصة . يقال إن شبكة “سي .إن .إن” بعد أن شعرت بأن مكانتها
وتأثيرها يهتزان أمام ظهور وصعود شبكات أخرى مثل “فوكس نيوز” وزميلاتها،
دعت مجلس إدارتها للاجتماع للنظر في الأمر ومحاولة التغلب على التراجع الذي
فرضته المحطات المنافسة، وقرر مجلس الادارة تعيين رئيس تحرير مجلة “تايم”
في نيويورك، الذي اعترف له الجميع بأنه رفع من مقام المجلة بطبع صور
الفاتنات من ممثلات هوليوود على صفحاتها الأولى . 


أول
قرار اتخذه الرجل لإصلاح الحال هو الاستغناء عن خدمة من يشكلون نسبة عشرة
في المائة من العدد الكلي لموظفي الشركة، وضغط المصروفات في المكاتب
الخارجية البالغ عددها 42 مكتباً . لكن لم يكن هذا التدبير الإجرائي هو
جوهر ما قام به الرجل، ذلك أنه أدخل اتجاهاً جديداً في تقديم الأخبار
بإيقاع مختلف عن ذاك الذي درجت عليه الشبكة، ووضع لذلك شعاراً: “الأخبار
الحقيقية بسرعة حقيقية” . هذا الطابع أعاد للشبكة حضورها مجدداً، بعد أن
نجحت في إحكام استراتيجية جديدة تعتمد على الإثارة والتفجير والمزج بين
الملاهي والترفيه الجنسي من ناحية، واللهب والنار والدمار والجثث المتطايرة
مع الشظايا من ناحية أخرى، وسرعان ما غدا هذا نهجاً مقلداً في العديد من
محطات التلفزة الأمريكية والعالمية .


لكن
علينا ملاحظة أمر آخر وثيق الصلة بالأمر هو تكاثر محطات التسلية، تلك التي
لا تفعل شيئاً آخر سوى بث الأغاني والموسيقا ب”كليبات” متقنة في مخاطبة
الحسي والغريزي موجهة نحو الأجيال الجديدة، التي تخلق “ثقافة” سائدة ونمط
سلوك رائجاً . وتزخر الأقمار الصناعية للبث الفضائي العربي بهذا النوع من
المحطات، التي تستعيد، واعية أو غير واعية، فكرة ألعاب السيرك التي ابتكرها
نيرون في العقود الأولى للميلاد . ولأشد ما تبدو فداحة هذا الأمر في ظروف
الأزمات والحروب حين تنهمر الصواريخ على المدن وتنقض الطائرات على المدن
المكتظة بالسكان، وتسيل الدماء في الشوارع وتنحشر الجثث تحت الأنقاض
المدمرة، فتبدو مهمة مثل هذه المحطات بث الخدر في عروق المشاهدين الذين تعد
كتلهم بالملايين، فتستحوذ عليهم نشوة الفرجة، فيما النيران على بعد خطوات
من ساحة السيرك تُشعل المدينة!