المنشور

في تحول المناضلين



قبل أيام (أواخر شهر نوفمبر/تشرين ثاني الماضي) نشرت الصحف العالمية صورة
لرئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما وهو بلباس قبيلته يرقص في حفل بهيج أقامه في مزرعته
الفارهة الكائنة في مسقط رأسه بقرية نكادلا في إقليم كوازولو ناتال وحضره عدد كبير
من المدعوين الذين استمتعوا بوليمة العشاء التي تصدرتها لحوم اثنتي عشرة بقرة أمر
زوما بذبحها لإكرام ضيوفه كي يكرموه بدورهم وينتخبوه مجدداً لرئاسة المؤتمر الوطني
الإفريقي الحاكم خلال مؤتمره المنعقد خلال الفترة من 16-20 ديسمبر/كانون أول
الجاري. 
  
علماً بأن سمعة الرجل قد تلطخت بما فيه الكفاية بعد أن كثرت الاتهامات
الموجهة إليه حتى من داخل الحزب بالتورط في عدد من قضايا الفساد والعلاقات
النسائية التي وضعت الحزب الحاكم، حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، في حرج شديد وفتحت
على رئيسه الذي هو رئيس البلاد أبواب النقد من جانب أحزاب المعارضة ومن جانب
الصحافة المحلية كصحيفة “سويتان” على سبيل المثال التي اتهمت الرئيس
جاكوب زوما في إحدى المرات “بجلب العار لبلاده”. 
  
ومع ذلك فإن جاكوب زوما مصمم على الترشح مجدداً لرئاسة حزب المؤتمر الوطني
الأفريقي ورئاسة الدولة ترتيباً، غير عابئ بأعباء أخطائه التي تثقل كاهل حزبه
والتي شجعت المعارضة غير المتجانسة على تشكيل ائتلاف أطلقت عليه اسم “أي شخص
ما عدا زوما”، وهو ائتلاف دعا إليه وشجع على إقامته جوليوس ماليما زعيم شباب
الحزب الذي طُرد في شهر أبريل الماضي من الحزب. وقد شن هذا الائتلاف حملة دعت إلى
عدم انتخاب الرئيس جاكوب زوما وتعويضه بنائبه كخاليما موتلانثي.
  
جاكوب زوما الذي انتخبه برلمان بلاده “جنوب أفريقيا” الذي يسيطر
عليه حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، رئيساً للبلاد في عام 2009 بعد أن خدم كنائب
للرئيس ثابو أمبيكي خلال الفترة من 1999 حتى عام 2005 قبل أن يُنَصَّب محل ثابو
أمبيكي رئيساً للحزب في عام 2007 – كان مناضلاً جسوراً وعنيداً منذ أن كان يافعاً
في صفوف حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في عام 1959، وفي صفوف الحزب الشيوعي الجنوب
أفريقي (في عضوية المكتب السياسي للحزب من سنة 1963 ولغاية 1990)، اعتقلته السلطة
العنصرية الحاكمة في عام 1963 مع 45 من رفاقه بتهمة التآمر للإطاحة بالنظام
العنصري الحاكم وقضى في السجن إلى جانب المناضل الكبير نيلسون مانديلا وعدد من
قيادات حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، عشر سنوات. وبعد خروجه من السجن أعاد بناء
الخلايا السرية لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي في إقليم ناتال. 
  
واستثماراً لجذوره القبلية من حيث انتمائه إلى قبائل الزولو التي استغلها
نظام الأقلية العنصرية البيضاء لدق اسفين بين أبناء الشعب الجنوب أفريقي، بتحويلها
إلى فرق موت وقوى ضاربة ضد السود بالنسبة للنظام العنصري – فقد كلفه حزب المؤتمر
الوطني الأفريقي بقيادة جهود إنهاء العنف بين أنصار حزب المؤتمر وحزب انكاثا
للحرية، ونجح في مسعاه لكسب تأييد أفراد قبائل الزولو لحزب المؤتمر. 
  
وهو تاريخ مشرِّف كما نرى لولا أن هذا المناضل الكبير استسلم وسلم نفسه
طواعيةً لإغواءات النفس الأمّارة بالسوء بعد أن راحت الاتهامات بالفساد واستغلال
النفوذ للكسب غير المشروع تطاله وتمتد فصولاً منذ إدانة مستشاره المالي شبير شيخ
في قضايا فساد وتزوير في عام 2004 بعد تحقيقات مطولة شملت جاكوب زوما نفسه بشأن
استغلال منصبه والتربح من صفقات بيع أسلحة لسلاح البحرية في البلاد والحصول على
مغانم مالية، حيث أُدين شبير شيخ وحُكم عليه بالسجن 15 عاماً فيما تمت تبرئة زوما
بأعجوبة رغم وقائع الفساد التي ورد ذكرها عشرات المرات في صحيفة الدعوى التي أشارت
إلى استفادة الاثنين من الصفقات. ولكن وبعد مرور اثني عشر يوماً على صدور الحكم،
وتحت ضغط الصحافة، اضطر الرئيس ثابو امبيكي إلى إعفاء جاكوب زوما من منصبه كنائب
للرئيس. 
  
وفي عام 2005 تم توجيه الاتهام من جديد لجاكوب زوما باغتصاب امرأة عمرها 31
عاماً هي ابنة أحد كبار مناضلي حزب المؤتمر إبان الحقبة العنصرية. 
  
ومن دون استرسال فإن هناك الكثير من اللغط والجدل الذي أثارته هذه الشخصية
القيادية البارزة ذات التاريخ النضالي المجيد سواء داخل جنوب أفريقيا أو خارجها
بتحولاتها المثيرة، والتي تطرح أكثر من سؤال حول مستقبل تجربة العمل الوطني
والنضالي في جنوب أفريقيا وطليعته حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي يعتبر أحد
أعرق وأشهر حركات التحرر الوطني في “العالم الثالث”، ناهيك عن زعيمه
التاريخي نيلسون مانديلا الذي غدا رمزاً عالمياً للكفاح والصمود المعززين
بمناقبيات أخلاقية وإنسانية غاية في النبل والعطاء المتدفق. 
  
كيف ينتهي المآل بنوعية من المناضلين بالوقوع في براثن الفساد ومهاويه
ومهالكه؟.. كيف يتحولون – لا ليس فجأة ولا من غير مقدمات – إلى فاسدين وإلى وُعاظ
سلاطين (على حد تعبير الراحل الكبير علي الوردي) أو منقلبين على أعقابهم … الخ. 
  
إنه الترهل ونقصان الرقابة الذاتية ووقفات المراجعة والنقد الذاتي، المفضية
جميعاً وحتماً إلى التفسخ والانهيار.