المنشور

العراقُ ومسيرتُهُ إلى الوراء


لم يستطع حزبُ البعث والحزبُ الشيوعي العراقي تكوين جبهة ديمقراطية تحولية كانت هي الجسر الموضوعي لنهضة العراق بعد المَلكية.


في رفضهما للتطور المَلكي الديمقراطي البطيء المتصاعد وتعبيرهما عن
دكتاتوريتين تمثلان البرجوازية الصغيرة النخبوية ومغامراتها وصراعاتها،
خلقا التآكل السياسي الاجتماعي الذي أزال نضالَ نصف قرن من التحديث الصعب
في العراق.


كان التنافس وطرح نموذجين شموليين: دكتاتورية البلوريتاريا
من جهة ودكتاتورية القومية العسكرية من جهة أخرى، مُهلكاً، وحتى في هذا
التنافس لم يستطع واحدٌ من الحزبين تنفيذ برنامجه.


المراهقة والحدة والعنف والخيال السياسي الجامح تجمع كله ليعصف بالقشرة التحديثية التي كسحها النظامُ الشمولي بمغامراته العسكرية.


فئاتُ البرجوازية الصغيرة الحادة هنا قامت بالتباعد وخلق الهوة بين العمال
والبرجوازية، بين القوى الشعبية المتعاونة لتأسيسِ نظامٍ ديمقراطي رأسمالي
حر، فيه التعددية والنهوض بمختلف الطبقات، واستثمار التراكم الاقتصادي
والثقافي للعراق، ولكن عصفت بها الإيديولوجيات الشمولية وأحلام القفزات
السريعة فكانت العودة المجددة الواسعة للإقطاع وقواه المختلفة.


السياسة
الأمريكية المعبرة عن اليمين المتطرف لم تقم بدرس وضعِ العراق وإعادتهِ
إلى مضمون المَلكية الديمقراطية السابقة، فهي ترفضُ التطورَ العلماني
المتصاعد، وتؤيد سيطرات القوى الدينية المتخلفة، وخلق فسيفساء سياسية تزول
منه الأعمدةُ الوطنية المترابطة كالقوى العلمانية الديقراطية التوحيدية،
والجيش، والأحزاب الوطنية الجماهيرية السابقة.


اليمين الأمريكي المتطرف
هو ذاته ضد التطور العلماني الديمقراطي الشعبي في أمريكا نفسها، حيث يتطلب
ذلك صعود قوى السلام والديقراطية واليسار لوضع حد لأزمة أمريكا الاقتصادية
الاجتماعية المتصاعدة.


هو ذاتُهُ ذو سياسةِ مغامراتٍ حادة مكلفة، وهو
نفسُهُ شكلٌ آخر للقاعدة، وظهور هذين الخصمين متصارعين موحدين هو نتاجُ
عملياتٍ سياسية اجتماعية عالمية متداخلة، إنه مصلحةٌ مشتركةٌ بين قوى
التطرف في العالمين الأمريكي والعربي.


تصعيدُ قوى اليمين الديني تعبيرٌ
عن مرحلة انهيار سياسي فكري وخلق قفزات لسرقة الأموال النفطية، ولهذا فإن
تصعيد القوى الشيعية والسنية المحافظة المعبرة عن أشكال الإقطاع المذهبي،
في مرحلة الاحتلال عودةٌ أكبر الى الوراء، عودةٌ أوسع من الانهيارات
الجمهورية السابقة إلى ما يشبه زمن تحللِ الامبراطورية العثمانية.


إن
تلاقي الإمبريالية في أكثر أشكالها المغامرة مع الإقطاع الطائفي المتحلل،
تعبيرٌ عن بلوغ الرأسمالية الأمريكية أزمةً عاصفة وتصدعاً عميقاً في
مكانتها ودورها القيادي بين الرأسماليات الغربية، تقوم بالحفاظ عليه عبر
المغامرات التي تدفق الأموال في المجمع الصناعي العسكري، وتريد تحريك
الاقتصاد المأزوم عبر هذه الأساليب الفوضوية، ولهذا لا يمكن أن تُصعدَ
القوى الليبرالية والديمقراطية والعلمانية لإنشاءِ مجتمع موحد، فهذا يتطلب
سياسة عقلانية بعيدة المدى وصبورة، ويتناقض ذلك مع جذور اليمين الأمريكي
المتطرف، ولهذا كان لا بد من التلاقي الأمريكي مع القوى التي طفحتْ أثناء
إنهيار المجتمع العراقي الوطني التحديثي.


وهكذا دخل العراق في ثنائية
الإقطاع الطائفي الفارسي والعربي، الذي يشدلا كلٌ منهما إلى جهة، وقد حاولا
خلق ثنائية فسيفسائية لا تستند إلى هيكل سياسي فكري توحيدي. وكان النموذج
الكردي غير ممكن في القسم العربي لكونه موحَّداً بشكل قومي عشائري ويتطلع
الى الانفصال عن العراق العربي.


إن القوى النهضوية التحديثية العلمانية
لا بد لها من مراجعة تاريخها الفكري السياسي الخاطئ ونقده وتصحيحه، ويظل
تحالفها رغم التناقضات الطبقية بينها، هو جسر العراق للعودة مجدداً للعصر
الحديث، لوضع حد لأشكال الإقطاع الطائفي المتخلفة، وتجاوزها في وثبة جديدة
لا مجال لغيرها ولا بديل عنها.