المنشور

من العزلة إلى النفط



في دراسته المهمة عن “الحياة الأدبية في جزيرة العرب” الصادرة عام 1935 يتساءل الدكتور طه حسين عن “سبب العزلة التي نشأ عنها أن أصبحت هذه البلاد التي كانت مصدر النور للشرق الإسلامي كله موطن الجهل والظلمة”، كما أصبحت هذه البلاد التي كانت مهد اللغة العربية والأدب العربي أقل البلاد حظاً من الامتياز في الأدب واللغة فضلاً عن العلوم الأخرى؟


لم يؤد اهتمام الغزاة الأوروبيين بهذه المنطقة، مع تصاعد التنافس بين القوى الاستعمارية على مناطق النفوذ في العالم، والذي انتهى كما نعلم جميعاً بنجاح البريطانيين في فرض حمايتهم على المنطقة والهيمنة التي امتدت مديداً عليها، إلى إنهاء ما عانته المنطقة من عزلة، بل إنهم كرسوا هذه العزلة من خلال سياسة الحفاظ على الأمر الواقع، دون المساس الجدي بجوهر الهياكل الاجتماعية وأنماط العيش في المنطقة، فلم يغد الهدف أكثر من استخدام هذه المنطقة رأس جسر لعملياتهم في بلدان ومناطق أخرى، ولم يكلف المستعمرون أنفسهم عناء إقامة بنية تحتية حديثة، وإدخال الخدمات التعليمية والصحية وسواها، ناهيك عن الخدمات الثقافية التي كانت في عداد الترف .


الاختراق الكبير الذي حدث في مسار السير الرتيب البطيء لمجتمعات هذه المنطقة جاء مع اكتشاف النفط وتصديره، والطفرة الاجتماعية الاقتصادية التي ترتبت على ذلك، مما أحدث هزة عميقة هددت معالم الثقافة الشفاهية السائدة بالاندثار قبل أن توثق أو تجمع مادتها، الأمر الذي بات يهدد المجتمع بأن يصبح مجتمعاً بلا ذاكرة .


ذلك أن فجاءة التحولات الاقتصادية الاجتماعية وسرعة وتيرتها أحدثت من الآثار على هذا الصعيد ما لم يحدث سابقاً، فخلال عقود قليلة جرى ما يشبه الانقلاب القيمي الذي نجم عنه تصدع في منظومة القيم، واندثرت الكثير من الحرف لصالح شيوع نمط انتاج جديد جلب معه ثقافةً فيها الكثير من مظاهر التشوه، بوصفها في الغالب الأعم ثقافة استهلاكية تتوسل السهولة والاسترخاء والاتكالية، ومع الوقت صُدرت صورة سلبية عن المجتمعات الخليجية بوصفها مجتمعات نشأت مع اكتشاف النفط، فيما الدراسة التاريخية تشير إلى وجود نماذج تعبيرية ثرية ومتعددة في حقول الثقافة والحرف والأشعار والأمثال الشعبية التي تلخص الخبرة الشعبية المديدة في الفترة السابقة لاكتشاف وتسويق النفط، وإن جزءاً كبيرا من هذه النماذج قد اندثر فيما يهدد الاندثار ما تبقى منها .