المنشور

في ذكرى أربعين المناضل علي دويغر… شعلة باقية – حسن جاسم الحجري

المناضل علي عبدالله دويغر، الذي توفي في 6 سبتمبر/ أيلول 2013، كان
شخصية لها مكانتها السياسية والاجتماعية والعلمية، إذ امتاز بالأخلاق
الحميدة والتواضع وحب الناس وخصوصاً الفقراء، حيث كرّس جلّ حياته في النضال
من أجل الحرية والاستقلال الوطني والديمقراطية والسلم والتقدم الاجتماعي.
كان شخصية تتصف بالحنكة السياسية في اتخاذ القرارات وبالصلابة في المواجهة،
وبالإرادة في تحديه للمحن والصعاب في مختلف الظروف.

وغالباً ما
يتذكر معاناة الرفاق العراقيين أيام نوري السعيد، متأثراً بقول الشاعر محمد
مهدي الجواهري الذي يقول في قصيدته «وحدة شعب»:

من يبتغي الأمر الجليل فلن يلين ولن يهاب…

لا نقرة السلمان تثنيه ولا سوط العذاب…

فهي الإرادة لا الظروف ولا الحظوظ ولا الصعاب.

لذلك لم يفرّط بمبادئه السامية ولم يخضع يوماً للماديات، فكان شخصية قوية أمام الجلاد، وكان بحق مناضلاً صلباً لم يلن ولم ينحنِ.

الرفيق
دويغر يعرفه معظم السياسيين في البحرين وخارجها، فهو أحد مؤسسي جبهة
التحرير الوطني البحرانية في فبراير/ شباط 1955، وأول من وضع مسودة برنامج
الجبهة تحت عنوان «برنامج الحرية والاستقلال الوطني والديمقراطية والسلم»،
وأول من فتح الطريق للدراسة في المعسكر الاشتراكي من أجل تخريج الكوادر
العلمية، كما أنه استطاع أن يؤسس مع رفاقه مقراً للجبهة في جمهورية مصر
العربية أيام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، والذي من خلاله لعب دوراً
أساسياً في تقوية العلاقات النضالية مع مختلف الأحزاب ومنظمات التقدم
والسلم في العالم، ناهيك عن مساهماته الفكرية في وضع برنامج تكتل الشعب عام
1973، فقد كان ناشطاً سياسياً ليس على المستوى المحلي فحسب وإنّما على
المستوى العربي والدولي طوال حياته النضالية.

ومعرفتي بالرفيق علي
دويغر تعود للعام 1968، عندما كنا في المعتقل بجزيرة جدا، وأتذكر جيداً أنه
كان يقبع في زنزانة مع رفيقه إبراهيم جمعة ديتو، وكان معنا في الجزيرة
كثيرٌ من كوادر وأعضاء الجبهة من بينهم أحمد محمد علي وموسى داود وسيد
إبراهيم سلمان مكي وآخرون. وكان من المحكوم عليهم سياسياً آنذاك حسن علي
محمد 6 سنوات، ومجيد عبدالحميد مرهون مدى الحياة، وحُكمت خمس سنين وكنت
أصغرهم سناً.

عشنا في تلك الجزيرة مع ضابط مدير السجن الإنجليزي
فرانك سميث، الذي كان يجيد العربية، وكان يقوم بتفقد المعتقلين والمحكومين
كل صباح ومساء، وعندما يصل إلى الرفيق دويغر يقف معه نحو ربع ساعة يتبادل
معه الأحاديث المختلفة، وما مضت إلا فترة وجيزة حتى فارقنا علي، حيث تم
نفيه إلى خارج البلاد.

في المرة الثانية التقيت به في أواخر
التسعينات، فتذكّرني في الحال وتبادل معي أحاديث الذكريات: أيام الاستعمار
البريطاني وشيئاً عن حياتنا في السجن. وبدأت العلاقة تتوطد أكثر فأكثر
لدرجة أنه أهداني ألبوم صور رسمها بيده كان بعضها معبراً عن الطبيعة
الخلابة لبلادنا في الستينات والسبعينات، والبعض الآخر كانت عن حياتنا في
السجن، وأصبحنا نخرج سوياً لقضاء الأمسيات الجميلة، وأحياناً نجلس في شقته
الصغيرة الواقعة قرب مركز بن سيناء الصحي بمنطقة رأس الرمان. وكثيراً ما
كان يحدّثني عن تطلعاته وأحلامه بعودة اليسار إلى مكانته الطبيعية، وعودة
المياه إلى مجاريها، وخصوصاً عندما جاء عهد الإصلاح والسماح لعودة المنفيين
من الخارج وإخلاء السجون من المعتقلين والمحكومين سياسياً، والسماح بتشكيل
الجمعيات السياسية، ومنها جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي.

وقد
ازداد دويغر تألقاً وابتهاجاً بتحقيق بعض أحلامه، وعلى الرغم من تدهور
حالته الصحية إلا أنه كان يحرص دائماً على حضور مختلف الفعاليات السياسية
التي أقيمت في نادي الخريجين ونادي العروبة ونادي طيران الخليج وفندق
الخليج… إلخ، حتى أنه كرم مع بعض رفاقه الأوائل في الاحتفال بالذكرى
الخمسين لتأسيس جبهة التحرير الوطني البحرانية عام 2005، ذلك الاحتفال الذي
أقيم على أنغام وموسيقى كلمات الشاعر والأديب، الرئيس الفخري للمنبر
الديمقراطي التقدمي المناضل أحمد الشملان: «طريقنا أنت تدري شوكٌ ووعرٌ
عسير…»، كيف لا وهو الذي أفنى جل حياته في بناء التنظيم الحزبي وخلق
الكوادر المؤهلة لقيادة هذا التنظيم.

لقد رحل عنا المناضل والرفيق
دويغر وهو يحمل الكثير من الهموم والأحلام لبناء وطن حر وشعب سعيد، من بين
تلك الأحلام والهموم كان همه الأكبر أن يستوعب الوطن جميع أبنائه، وأن
تترسخ قواعد وأركان الحرية والديمقراطية في مجتمع آمن مستقر تُصان فيه حقوق
الإنسان في ظلّ اتساع رقعة الإصلاحات التي تتطلب أيضاً الالتزام
بالواجبات، وفي الوقت ذاته كان مناوئاً لسياسة القمع والعنف والعنف المضاد.
وكان دائماً ما يدعو إلى الالتزام بمبدأ النقد والنقد الذاتي، وكان حريصاً
على وحدة الحزب في العمل التنظيمي والجماهيري. وغالباً ما كان يحدثني عن
ضرورة تربية جيل جديد واع لقضايا الوطن ومخاطر الطائفية البغيضة التي أراد
لها مروّجو الكراهية في المجتمع أن تتفاقم منها مصالح ذاتية ضيقة مرفوضة.
وغالباً ما كان يتساءل: لماذا لم تتجسد وحدة التيار الديمقراطي والوحدة
الوطنية التي كنا ومازلنا ننشدها وننادي بها في كل أدبيات الحزب؟

نعم
إن التاريخ السياسي وتاريخ النضال لجبهة التحرير الوطني يشهد للراحل
المناضل الرفيق علي دويغر بأنه كان مناضلاً أممياً، لم يهادن قط النزعات
القومية والأفكار المتطرفة، محارباً ونابذاً للطائفية البغيضة.

يا
دويغر إن متَّ جسداً فإنك لم تمُت فكراً وتاريخاً حافلاً من النضال، وإن
كان جسدك ووري الثرى في لحدٍ في السويد، فإن حياتك المفعمة بالتضحيات
والعطاء مازالت ماثلة أمام كل أهلك ورفاقك ومحبيك الذين لم ينسوا تلك
الأيام التي عشتها بينهم، ولاسيما أيام الجمر التي عاصرتها مع رفاقك في
مختلف زنازين الاعتقال وفي المنافي.

لم أقل لك يا دويغر وداعاً
أبدياً، فأنت شعلة باقية رغم تقلبات الزمن. فنم قرير العين نومتك الأبدية،
فأنت موجود في قلوبنا حيث ينبض قلبك وينير دروب النضال للطبقة العاملة
البحرينية ولجميع الكادحين والمناضلين.

حسن جاسم الحجري