المنشور

الدرب الطويل للتنمية السياسية


حضرت جانباً من جلسات الملتقى الإعلامي الخليجي الأول الذي عقد منذ أسبوعين تقريباً من قبل معهد التنمية السياسية، وكان عن الإعلام والتنشئة السياسية، وقد كان الملتقى مفيداً جداً من أكثر من ناحية. 





ومع الملاحظة العامة على عنوان الملتقى والخاص بـ “التنشئة” السياسية، والمطالبة بتغييرها إلى “التنمية السياسية”، فإن هذا سيكون شكلياً، لأن المتحدثين الذين سمح لي الوقت بحضور مداخلاتهم لم يتحدثوا عن كيفية أداء الإعلام دوراً في “التنشئة السياسية”، ولكنهم تحدثوا – في الغالب – عن أفكار أتوا لطرحها أمام الحاضرين.





من أهم الفوائد التي خرجت بها من هذا المنتدى هي تلك النقاط التي لم تطرح – على الأقل في فترة تواجدي – تتمثل في الأسئلة المعروفة: ما التنمية/التنشئة السياسية؟ لماذا تتم هذه التنشئة؟ من عليه القيام بها؟ كيف تتم التنشئة؟ كيف يمكن قياس نجاحها من عدمه؟ والكثير من الأسئلة المتعلقة بأي بهذا الموضوع المهم، والذي من أجله أقيم هذا الملتقى.





فالتنمية واحدة من العمليات المركزية التي تتولاها جهة محددة، تضع لها الإستراتيجيات والمبادرات والخطط التنفيذية، وتكون لها أهداف قابلة للقياس والتحقق، وربما تشارك فيها وسائل الإعلام غير الرسمية بدوافع وطنية معينة. ولكن الصحف (وهي الوسائل الإعلامية الوحيدة غير الرسمية في البحرين حتى الآن، ولا يُعلم إلى متى من الممكن أن تبقى على يُتمها هذا)، هي مؤسسات تجارية في الأساس، مسجلة في وزارة التجارة الصناعة، وهي تسعى للربح بكل تأكيد مع نهجها المؤاخي لعدم الخروج عن الروح الوطنية العامة، ولكن هل الصحف اليوم هي المجال الأمثل لإحداث التنمية السياسية ما دامت تتبع توجهات مختلفة فكرياً، ولها منطلقات شتى، وأغراض متعددة، ومناطق نفوذ تقليدية، وقوى تقف وراءها، وهي تصطف مع أجنحة متنوعة؟





أما في أحلك الظروف التي مرت على البحرين، أي في العام 2011، وفي الوقت الذي التفتنا إلى أكثر الصحف المحلية طلباً لأن تكون صمام الأمان في هذه الضبابية التي سادت الرؤية، وهذا الانقسام الواضح والعنيف في المواقف، وفي هذا الخلط السياسي الكبير، والاستقطاب الحاد، وفي ضياع البوصلة التي أصبح فيها الحليم حيراناً، في هذه الأحداث التي تعرّف فيها كثير من الناس على كلمة “سياسة” بينما كانوا قبلها من أكثر الزاهدين في هذه الكلمة الثقيلة على النفس، والتي تخرجهم من لذة الترفيه ودعة العيش، فجأة وجدوا أنفسهم مندفعين إلى أتون التطاحن المرّ الذي حدث، وفي غضون بضعة أسابيع صاروا محللين سياسيين، ولهم مواقع إلكترونية، أو مجموعات بريدية، همّها الأول والأخير، “الردح مع الرادحين”، والترويج بسذاجة يندى لها الجبين، بل تبكي لها العين، للمستوى الضحل الذي وصلنا إليه؛ في هذا كله، نرى الكثرة الكثيرة من صحفنا ليست أقل تعرقلاً بهذه النغمات غير المتوازنة، ولمعت أسماء اعتمدت التحريش بين مكونات المجتمع الواحد، وراحت تطعن علانية وخفية في طوائف هذا البلد، وتصف من لا يتفق معها بأبشع الألفاظ وأشنعها، بشكل صريح أو بأسلوب التلميح، وأكثرت هذه الصحف من البلبلة لعامّة القرّاء من خلال المفاهيم المغلوطة إن كان في علم السياسة، أم في علم الاجتماع، وامتطى كتاب التاريخ، وركب آخرون موجات السياسة والدين وغيرها، فقط من أجل تحقيق “الانتصار”، ولا نعلم أي انتصار تحققه على أخيك؟ وكيف يمكنك أن تفرح به وتحتفل؟!





فلم تكن الصحف في هذا الحدث الأكبر، هي البيئة الخصبة التي تنمو فيها المفاهيم السياسية الصحيحة، وليست هي التي تبثّ الوعي الجمعي للتنمية السياسية ومفاهيمها، تلك المفاهيم التي تدعو إلى النضج في التعامل مع المعطيات السياسية، ما دامت قد تحولت من قائد رأي، وهي ما كان المعوَّل عليها لتكون قائد رأي، ومشكّل للشخصية المواطنية السياسية الصحّية، وما دامت الكثرة الكثيرة من نسيج هذا القطاع قد وصلوا إلى عدم المسؤولية في ما يكتبون، فلا عجب أن تخرج الصحف الرادحة الصادحة من هذا السياق.





تبقى الأجهزة الرسمية؟ وهي التي شُلّت في بداية الأحداث ما كانت تدري أين تتجه، وواضح أن لم تكن لديها خطة “إدارة أزمة” لحدث كبير كهذا، مع أن أحداث الخروج إلى الشارع – وإن كانت أقل كثافة وضراوة – كانت تحدث بشكل شبه منتظم منذ 30 عاماً تقريباً، ألم يأنِ للمسؤولين المتعاقبين عن هذه الأجهزة أن يضعوا خططاً ضابطة للحرارة، متوازنة وعقلانية، بدلاً من السير في ركاب ما كان يقال في التويتر، وما تتبادله المجموعات البريدية من أخبار واتهامات؟ 





ليس المهم ما حدث بالأمس، فهذا فقط ما يمكن أن نستلّ منه العبر والدروس، ونجعله مقدمة لازمة للمستقبل؛ ولكن الأهم هو ما حدث بعد أن سكن الغبار، والتساؤل القائم: ما الذي انعكس على أجهزتنا الرسمية من برامج حيوية وجذّابة (برجاء التركيز على الحيوية والجاذبية)، غير دسّ اسم البحرين في كل برنامج، حتى تشابهت البرامج علينا.





والدور الأهم في هذا الجانب يرتبط بوزارة التربية والتعليم، وهذا ما تم تناوله من أكثر من مشارك في الملتقى، ولكن تبقى الكيفية. فهناك مواد لـ “المواطنة”، ولكن هل هي كافية حقاً لأن تخلق وعياً سياسياً لدى المواطن، يقبل الاختلافات السياسية، ويراها أمراً طبيعياً، بل حيوياً، وأكثر من هذا أن يعتبرها أمراً مطلوباً أن نختلف سياسياً في حب وطننا، وأن نسعى كلٌّ بما تسعه الطاقة ليخدم وطنه من أبواب عدة، وبحسب رؤى مختلفة؟ هل يُنشّأ الطالب على أننا جميعاً لوحة فنية لا يكون لها أي حظ من الجمال ما لم تكن غنية ومتنوعة الألوان؟





خرجت من الملتقى يرنّ في بالي موقف، إذ دخلت إحدى الموظفات مكتباً من دون أن تسلم على زميلتها وكأنها غير موجودة، فلما سألتها عن السبب، قالت: “إنني أختلف معها سياسياً”!

دربنا طويل أيها الأخوة.