المنشور

الإقصائيون وغياب الرؤية الوطنية

في المقالة السابقة توقفنا في حديثنا عند غياب المشروع السياسي لدى
السلطات السياسية، وكثرة الحديث عن «الثوابت» و«المبادئ» غير المسموح
الاقتراب منها، أو أن يطالها أي نقاش، وهو حديث يستبطن بقاء الأوضاع
المتردية الراهنة دون تغيير.

وإذا ما أمعنا النظر والتفكير في هذا
الخطاب الإعلامي والدعائي الذي درج على تكرار مثل هذه «المفاهيم» لوجدنا
أنه خطاب يفتقر إلى التماسك أو التناسق مع المعطيات القائمة على الأرض، فوق
ما يحمله من نزعة إقصائية. وهو خطابٌ نراه يتكرّر تباعاً مشفوعاً بمكابرة
سياسية لا موقع لها في ميدان السياسة التي لا «ثوابت» فيها، إضافةً إلى
افتقاره للرؤية الوطنية الجامعة، وكل هدفه طمس الحقائق وخنق أية فرصة
إيجابية يمكن أن تلوح في أفق المشهد السياسي المأزوم أصلاً. وأخيراً هو
خطابٌ مهووسٌ بالحديث عن المؤامرة الخارجية المزعومة، وكل حمولته هي العمل
على تسقيط القوى الوطنية المعارضة والتحريض ضدها.

وهكذا عندما نتوقف
عند تلك «الثوابت» والمبادئ» و«الخطوط الحمر» التي تساق كحججٍ وذرائع
لتعطيل وإجهاض الحلول السياسية ومعاندة الإصلاح الديمقراطي، تحسب أنهم
يتحدثون عن «قيم مطلقة» تخص قضايا «الكون» و«الخلق»، أو عن بعض «المسلمات»
و«المقدسات» التي هي خارج نطاق تجارب ومدارك البشر!

بينما الواقع
يقول إن كل ما له علاقة بالدولة وعناصرها، والسلطة السياسية ومكوناتها، وكل
ما يتعلق بشئون تنظيمها، والعلاقة التي تحكم أطرافها خصوصاً بين الحكم
والشعب، هي من المسائل التي تخضع لرؤى واجتهادات الناس، وقابلة للنقاش
والتطور، ما يجعل منها موضوعات أساسية لأي حوار يمكن أن يقود إلى إحداث
تغيير وتطوير في هذه القضايا، بما يخدم حاجات ومطالب هؤلاء الناس والتغلب
على الظروف الصعبة التي يجتازونها.

نحن هنا نتحدث عن كل المتغيرات
القابلة للتطور والتبدل، سواءً تعلق الأمر ببعض النصوص أو ببعض الشخوص التي
ربما كانت مناسبة وفاعلة في ظروف سابقة، وقد تكون أدّت دورها المطلوب في
مرحلة معينة، ومن حقها علينا أن نحترمها، ولكن ليس تقديسها أو سجن أنفسنا
داخل أسوارها وأفكارها التي تجاوزها الزمن، خصوصاً إذا ما أصبحت تمثل اليوم
عبئاً يحول دون تطور وتقدم بلدنا وتعايشه مع قيم العصر من حرية وعدالة
وكرامة إنسانية، وصارت عائقاً في وجه خروج بلدنا من العطالة السياسية
والاجتماعية التي يعاني منها، بعد أن أصاب الجمود والخمول الوضع السياسي
بالدولة.

الذي نريد أن نصل إليه هنا هو أنه لا يجوز أن نجعل من عملية
الحوار مجرد محطة أو قناة لإعادة إنتاج الأزمة وأسبابها، أو نحاول تلميع
صورتها تحت عناوين فضفاضة وخادعة، مثل الحديث عن «الثوابت» و«المبادئ»
و«الهوية الوطنية» في الوقت الذي توجد، عدا القضايا الدستورية والسياسية،
قضية حساسة وخطيرة تهدّد حاضر ومستقبل البلد وتضرب هويته الوطنية والقومية
في مقتل، ولا يجري الاقتراب منها أو طرحها كعنوان على جدول أعمال الحوار،
ونعني بها قضية التجنيس السياسي الذي باتت مفاعيله السياسية والأمنية
والاجتماعية تتكشف بشكل مقلق ومفزع. هذا ناهيك عن تعمد الزج بالهويات مادون
الوطنية مثل الطائفية والقبلية والعرقية في الصراع السياسي من جانب هذه
القوى التي اعتادت كثيراً التحدث عن المبادئ والثوابت، إمعاناً في التضليل،
وإصراراً على توفير الغطاء السياسي للاستبداد والفساد وقمع الحريات
والتنكر لكل قيم حقوق الإنسان.

إن هذه المسألة تقودنا إلى طرح سؤال
مهم، يجب أن تكون الإجابة عليه محور وأساس أي حوار قادم، وهو: ماذا يحتاج
بلدنا على المستويات السياسية والاجتماعية والأمنية في هذه المرحلة الصعبة
والحرجة؟

الإجابة على هذا السؤال بتجرد وموضوعية سوف يساعدنا حتماً
على توجيه الفكر والسلوك نحو النموذج السياسي الوطني الجامع، والذي يلبي
طموحات وتطلعات المواطنين كافة، أي نموذج تتوافر فيه شروط ومعايير العدالة
والمساواة ومبدأ تكافؤ الفرص. وبشكل أكثر تفصيلاً، إن ما يحتاجه بلدنا
اليوم ويعوزه بصورة ملحة، ثلاثة أمور جوهرية:

الأول: نموذج سياسي
عادل ومتوازن يرتكز على مبدأ «الشعب مصدر السلطات جميعاً»، حتى يكون قادراً
على إدارة الدولة وفق أسس من العدالة والنزاهة والشفافية، والمساواة
والمواطنة المتساوية، لأنه بدون هذه القيم لا يمكن وقف الاستبداد ومحاصرة
الفساد، ويكون الحديث عن الإصلاح مجرد لغو لا طائل منه.

الأمر
الثاني: الأخذ بالديمقراطية كصيغة حكم باعتبارها الأفضل والأسلم في إقامة
وتنظيم العلاقة بين السلطة والشعب، بعيداً عن أية خيارات أمنية أو عنيفة.
أي أن يكون خيارنا المتوافق عليه هو الديمقراطية التي تتحقق معها التعددية،
وتحمي الحريات، وتوفر الأمن والأمان والاستقرار الدائم، كما تضمن تمثيل
إرادة الناس عبر الانتخاب والمشاركة الحرة لكل أطياف وقوى المجتمع دون
إقصاء أو تهميش لطرفٍ، ودون إخضاع أو إذلال للمواطن، فالديمقراطية لا تحتاج
إلى شعب مرهق وضعيف لا همّ له سوى اللهث وراء لقمة العيش وانتظار
«المكرمات» و«الإعانات»، إنّما الديمقراطية دورها يتجسد في خلق شعب يمتلك
العزة والكرامة والعيش الكريم، وتجعله قادراً على العمل والحركة والتوجّه
نحو الرقي والتقدم، ومنافسة بقية أمم وشعوب الأرض. وهذا لا يمكن تحقيقه دون
وجود حياة حرة وكريمة يحياها المواطن.

الأمر الثالث: هو توفر اقتصاد
قوي يحقق العدالة الاجتماعية للمواطنين، في دولة مدنية وعصرية مكتملة
البنى والخدمات. وهذا النوع من الاقتصاد يتحقق فقط بوجود حكم ديمقراطي
عادل، يمتلك مقومات منع الاستئثار وضرب الفساد والمفسدين.

هذه ثلاثة أمور أساسية ينبغي أن تتصدر أولويات ومخرجات أي حوار، لأنها هي المعنية بمعالجة مشاكل الواقع وتحدياته.

ترى ما هو موقف القوى الإقصائية الرافضة للتغيير من هذه الأمور الجوهرية الثلاثة؟ هذا ما سنتناوله في مقالة مستقلة إن شاء الله.

محمود القصاب