التيار الديمقراطي في العراق آبان الفترة 1963-2003
الواقع والآليات
الحلقة الخامسة
بقلم : علي الحداد
بعد سيطرة حزب البعث على النظام، انعكس نهج النظام على المجتمع العراقي من كل النواحي الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية والثقافية، فكان نتائج الاستبداد على الشعب العراقي كارثة بكل تفاصيلها، فقد تم فرض الديكتاتورية، التي تحولت فيما بعد إلى ديكتاتورية الفرد، فانتهج العسكرة، والتبعيث واقصاء المعارضين واعتقالهم وتعذيبهم وتشويهم سياسياً واغتيالهم، بينما يتشدق النظام بالحرية وهي الكلمة الأولى التي رددها باستمرار وكانت بمثابة الشعار المركزي لدى حزب البعث، كلمة رددوها ولا يؤمنون بتطبيقها ويعرفون تماماً إن إطلاق الحريات العامة وتشكيل الاحزاب هي بمثابة خنق ومقبرة لهذا الحزب المتسلط، ولهذا اتسم النظام الحاكم بالسمات الآتية:-
تصفية التنظيمات السياسية المناوئة للنظام:-
ملاحقة النشطاء السياسيـين ومنعهم من العمل السياسي، الا من خلال حزب البعث حيث تم منع أي حزب بممارسة العمل السياسي و اعدام من ثبت عليه ذلك، وحاول النظام جرالطبقة الوسطى كواجهة له أمام المجتمع وفـّر لها البحبوحة والعيش الكريم والعمل على تحقيق رغباتها لتسير في فلكه إلا أنها تضررت منه أكثر مما استفادت مما أثرذلك على عمل التيار الديمقراطي بكون الطبقة الوسطى هي حاضنة للتيار الديمقراطي وحاملة لمشروع التنوير .
تحطيم البيئة التحتية التي يستمد التيار الديمقراطي وجوده واستمراره:-
ركز النظام بشكل أساسي على مطاردة الكوادر النقابية ومنعهم من العمل النقابي وفرض قادة نقابية موالية ضعيفة وغير مقبولة لدى الجماهير ، وعملت على تخريب الاعلام والثقافة وتحييدها الى ثقافة شوفينية وملوثة بأفكار قومية والقيام بفرض الرقابة بكل قوة وحزم على من يخرج عن الخط المرسوم اليه على الصعيد الاعلامي والثقافي، وتشجيع الاقلام ذات الصبغة الانتهازية التي تعمل على تحسين صورة النظام وتزيينه ووضع مبررات للحروب التي شنوها بغير وجه حق، والدفاع عنها وإلباسها ثوب القدسية.
اضعاف الطبقة الوسطى:-
لم تسلم الطبقة الوسطى من مضايقات حزب البعث وذلك بمحاولة جرها إلى موالاته عبر الإغراءات وتوفير الإمتيازات لها وفي حالة المعارضة تتعرض للملاحقة البوليسية والإعتقال والإستجواب وتصل إلى حالة الإغتيال إذا تطلب الأمر ووضع قيود وإعاقات في معاملاتها التجارية الداخلية والخارجية مما قلصها وأضعفها وجاءت الحروب لتزيد من إضعافها وانعكس ذلك على قوة التيار الديمقراطي الذي أعتمد على الطبقة الوسطى كحاضنة له .
واقع التيار الديمقراطي في الحقبة 1963- 2003
يمكن تقسيم واقع التيار الديمقراطي خلال هذه الحقبة وفق ثلاث مواقع :
أ) التيار الديمقراطي في داخل العراق :
أجمل الأيام التي عاشها التيار العراقي ومارس فيها علنيته الوحيدة هي فترة ثورة تموز في 1958 وانتهت عام 1963 حين أستولى عبد السلام عارف السلطة إثر انقلاب عسكري أدت إلى إعدام الزعيم عبد الكريم قاسم وراح ضحيتها المناضل العظيم سلام عادل أمين سر الحزب الشيوعي العراقي حيث مثل في جسده أبشع تمثيل ، حتى البعثيون بكوا لهذا المشهد العنيف الذي لم تشهد لها البشرية من قبل من شدة قسوته و بشاعته، وشمل هذا المسلسل كوكبة من الشهداء طالت أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وقيادات وكوادر التيار الديمقراطي، ولم تسلم من الملاحقات والمطاردات والإغتيالات أي من القوى وصدور قانون رسمي حرم فيه العمل السياسي لكل التيارات ما عدى حزب البعث، مما تطلبت الظروف العمل تحت الأرض وبسرية فائقة وإرسال الكوادر المكشوفة إلى كردستان شمال العراق وإلى منظمات الحزب خارج العراق .
ب) التيار الديمقراطي في كردستان العراق :
كانت كردستان الملاذ الأخير لكل القوى الديمقراطية، والتي تشردت عناصرها من بطش النظام الديكتاتوري وملاحقته لكوادر هذه القوى ولان كردستان تتمتع بتضاريس وجبال لا يستطيع أزلام النظام دخولها بسهولة، لوجود مقاومة قوية من قوى ديمقراطية كردستانية تمثل التيار الديمقراطي، حيث حملت السلاح وظلت تقاوم النظام البعثي منذ مجيئه من أجل شرعية ومطالب وحقوق الشعب الكردستاني، إضافة إلى وجود قوى للتيار الديمقراطي تناضل مع القوى الكردستانية من ضمنها قوى تابعة للحزب الشيوعي العراقي .ولهذا قرر الحزب الشيوعي العراقي في إجتماع لجنته المركزية المنعقدة في برلين في تموز 1979 الإتصال بالأحزاب الكردستانية وإقامة جبهة وطنية ديمقراطية لإنهاء الحكم الديكتاتوري وتمثل هذه القوى الحزب الديمقراطي الكردستاني ، الإتحاد الوطني الكردستاني، الحزب الإشتراكي الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي . وسبق للحزب الشيوعي أن خاض تجربة مسلحة في كردستان بالإضافة إلى إحتفاضه بتنظيمات قوية في أوساط الشعب الكردستاني وكان للحزب الشيوعي نشاطه الأعلامي في كردستان فأصدر جريدته السرية من هناك إضافة إلى الإصدارات الأخرى منها مجلة رافد زيرة ،مجلة الجبل الأبيض، مجلة هرور، شعاع قنديل و فجر النصير، وبث إذاعته على أحد الموجات القصيرة .
ت) التيار الديمقراطي في خارج العراق :
لتواجد المنظمات الحزبية التابعة للحزب الشيوعي العراقي والمستقلين والتيارات الأخرى تكون بمثابة مناطق دفئ للكوادر الشيوعية والديمقراطية المطاردة من قبل تيار حزب البعث منذ وصوله إلى السلطة وكان الهروب أحد الطرق للحفاظ على كوادر التيار الديمقراطي ، والهروب من العراق يأتي عادة عبر السفر بإستخدام جواز السفر بشكل طبيعي، وأحيانأ تضطر الظروف بالتهريب عبر كردستان ومنها إلى خارج العراق، وتوالت الهجرات من العراق بأعداد كبيرة وكان أولها أثناء الحصار الإقتصادي الذي أفقر الشعب العراقي ، والدفعة الأكبر من المهاجرين كانت فترة حرب الخليج الثانية ، وعلى أثر إنتفاضة أذار عام 1991 الذي قمعها النظام بوحشية خصوصا في الجنوب والتي أعطت فيه الإدارة الإمريكية الضوء الأخضر عندما أطلقت يداه بإستخدام كل الوسائل المتوفرة عنده إذ قدر عدد الضحايا ما بين عشرين ألف الى ثلاثين ألف شخص .
آليات التيار الديقراطي في الفترة 1963-2003 :
اختزل صدام حسين كل مناصب الدولة في شخصه الكريم كنائب للمراتب الخمسة الأولى: لرئيس مجلس قيادة الثورة، ولأمين سر القيادة القطرية، ولرئيس الجمهوية ولرئيس الوزراء، وللقائد العام للقوات المسلحة، وديكتاتوريته في اخذ القرارات حيث كان لا يسمح لأي أحد إعتراضه وشنه للحروب كان أيضاً بقرارت فردية والذي كان تبعاته الحصار الأقتصادي.
وكل ذلك اثر بشكل مباشر وغير مباشر في اضعاف التيار الديمقراطي فقد تحطمت البنية التحتية للتيار، واضعاف الطبقة الوسطى الحاضنة للتيار الديمقراطي انتجت هذه العوامل الى جانب عوامل اخرى ساهمت في اضعافه وبالرغم من ذلك فقد واصل التيار الديمقراطي نشاطاته المحدودة سواء داخل العراق أو خارجه.
ويمكن تفصيل آليات التيار الديمقراطي كما يلي:-
1- النشاط السياسي:-
كان موقف التيار الديمقراطي واضحاً في بياناته ونشاطاته سواء داخل العراق أو خارجه ضد ديكتاتورية الفرد وطالما حذر النظام من عواقب وأخطاء سلوك الفرد الواحد وحذر من نتائج العواقب الاقتصادية وكان ضد فرضها على العراق لأن المتضرر الوحيد هو الشعب العراقي وأن لا يتحمل عواقب اخطاء النظام ولم ينخرط التيار في المشاريع الاجنبية لاسقاط النظام، لأنها ضد البديل الممثل بسيطرة القوى الأجنبية وحينما حدثت الحرب أدان الغزو ووقف ضد الاحتلال، وقاومه سلمياً.
2- النشاط التضامني:-
عمل التيار الديمقراطي في فضح النظام وسلوكه وانتهاكاته من خلال المنظمات الدولية بما فيها الامم المتحدة التي وقفت مع حقوق الشعب العراقي حيث وثق التيار الديمقراطي الانتهاكات بشكل مفصل مع إلحاقه بالدلائل والوثائق التي تثبت ذلك.
3- النشاط الثقافي:-
الثقافة في الوطن العربي بأجمعه لا يمكن فصلها عن مثقفي اليسار الذي استطاع تطعيم الاجواء الثقافية بكوادره ومفكريه وبهذا نعتبر العراق مدرسة ساهم فيها مفكري الحزب الشيوعي العراقي بشكل كبير ووقف المثقفون عبر وسائلهم الخاصة ضد تجيير المؤسسات الثقافية لصالح النظام، وقفوا ضد الحصار وانتقدوا سياسة النظام وديكتاتورية الفرد، أما خارج العراق فكان دور المثقفين العراقيين مصباح منير يضيء في كل البقاع الذي يتواجد فيها الشيوعيون العراقيين ودورهم المميز في غرس الثقافة الوطنية ذات الطابع الديمقراطي والانساني.
4- النشاط الإعلامي:-
كان دور الصحافيين الوطنيين والاعلاميين دوراً بارزاً قبل حقبة صدام وبعدها وواصلوا مسيرتهم ونشاطاتهم الإعلامية ضمن الاجواء والمساحات المسموحة لهم فيها، فقاموا باصدار النشرات السرية والبيانات السياسية واكدوا على وحدة المعارضة كحل للخلاص من الديكتاتورية واقامة البديل الديمقراطي.
5- الكفاح المسلح:-
كان تجمع القوى الديمقراطية في كردستان بعد تضييق الخناق عليهم، مما رفعوا السلاح للدفاع عن نفسهم أولاً وعن المناطق التي تواجد فيها الديمقراطيين حيث أصبح الجانب العسكري جزء من حياتهم مكملا له النشاط السياسي من خلال عقد الندوات والدورات التثقيفية لرفع المستوى الاكاديمي والثقافي لدى عناصر القوى الديمقراطية العراقية والكردستانية، فالقوى المتواجدة على ساحة كردستان انصار الحزب الشيوعي العراقي، الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب باسوك ،الحركة الديمقراطية الاشورية، كما التحقت في النصف الثاني من التسعينات مجموعات من المعارضين، كالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والذي تغيرأسمه فيما بعد الى المجلس الإسلامي الأعلى، والمؤتمر الوطني العراقي وقد أسست لها مكاتب في كردستان.
كان صمود هذه القوى في كردستان بمثابة قوة وصلابة للتيار الديمقراطي والتي أستمر حتى إزالة النظام البعثي .
6- التحالفات في إطار المعارضة:
قام الحزب الشيوعي العراقي بدورا مهما سواء في إطار التيار الديمقراطي أو في خلق قوى المعارضة من خلال التحالفات ومن ضمنها الجبهة الوطنية “جود” التي ضمت الحزب الديمقراطي الكردستاني، الحزب اللأشتراكي الكردستاني، والحزب الشيوعي العراقي ، وحزب البعث جناح سوريا، وكذلك الجبهة الوطنية والقومية الديمقراطية التي ضمت الإتحاد الوطني الكردستاني .
نظم أول مؤتمر للمعارضة العراقية في بيروت بعد تحرير الكويت مباشرة، حضره وساهم فيه الزعماء الرئيسيون كافة وشكل المؤتمر على اساس التيارات والاتجاهات السياسية الاساسية وهي الاتجاه الاسلامي، الاتجاه القومي العربي، الاتجاه القومي الكردي، والتيار الديمقراطي الاجتماعي والتيار الليبرالي. والذي يعد آخر تحالف عقد على أساس المكونات السياسية والاتجاهات الفكرية، وانعقد المؤتمر بالتزامن مع النهوض الشعبي في داخل العراق واندلاع الانتفاضة الشعبية في أذار 1991.
وسارت أعمال المؤتمر (11 – 13/3/1991) بالنجاح تحت شعار (وحدتنا ضمانة لخلاصتنا من الديكتاتورية وصيانة لوحدة وطننا وانتصار البديل الذي يختاره شعبنا).
فيما بعد شكلت القوى المعارضة مؤتمرها وفق الاتجاهات القومية والطائفية لتكون من المحاصصة أساساً في بناء النظام السياسي الجديد في العراق.
وكانت قوى التيار الديمقراطي ممثلاً في اللجنة التنفيذية ولكنها انسحبت لعدم ذكر مصادر التمويل لهذا المؤتمر فقرر حينها التيار الديمقراطي الانسحاب من المؤتمر الوطني لارتباط الأخير بالمشروع الامريكي وترجيحه لخيار الحرب على العراق، ولهذا السبب لم تشارك قوى التيار الديمقراطي في مؤتمرات المعارضة التي أنعقدت في لندن والتي لا تمثل كل اطياف المعارضة.
وفضل التيار الديمقراطي التنسيق مع القوى التي لم تنخرط في المشروع الإمريكي ومنها حزب الدعوة الإسلامي .