المنشور

وحوش الشد الطائفي – محمد عبدالله محمد


عندما يريد أحدٌ أن يبني له داراً فعليه أن يفعل الكثير. أن يجمع المال، ثم يشتري الأرض، ثم يبحث له عن مهندس، ثم شركة إنشاءات، فضلاً عن عشرات المعاملات والمتابعات اليومية والمتلاحقة. يستمر هذا الحال لعدة أشهر وفي أحيان كثيرة لسنوات.
 
في المقابل، لو أن الشخص نفسه، أراد أن يهدم داراً له، فكم هو الوقت الذي سيتطلبه ذلك؟ ربما يوماً أو يومين في حدٍ أقصى. هذا يعني أن ساعة البناء هي ضعف ساعة الهدم بـ 180 مرة! أما إذا احتسبنا التكلفة المالية، فهي لا تُقارن بين بناء البيت وهدمه. فهي تصل إلى مئة وأربعين ضعفاً!
 
السبب في وجود ذلك البَوْن الشاسع بين البناء والهدم، هو أن مَنْ يروم البناء، هو يتوخَّى الحذر في كل شيء، بدءًا من المقاسات ومروراً بكثافة المواد الإسمنتية، لتحديد درجة التصلُّب والتماسك، وذلك لتشييد بناء قادر على مواجهة التأثيرات الطبيعية والبيئية، فضلاً عن مراعاة صورة المنزل الجمالية، عندما تُوضَع اللمسات الأخيرة على جدرانه.
 
أما مَنْ يقوم بالهدم، فهو لا يُراعي أيّ شيء من ذلك. هو يطمح فقط في أن يَهدّ المبنى، ويُسوِّيه بالأرض. فلا مقاسات يهتم بها ولا تأنٍ ولا حاجة له لِلَمسات ديكورية يضعها على صورة البيت، ولا هم يحزنون. أقصى ما يتطلبه الهادِم هو ألاَّ يُصاب هو بسوء، عندما تنهار الجُدُر على الأرض، وتتكسر حجارتها، فيتقافز عن غبارها.
 
أذكر هذه المقدمة، كي أخلص إلى أن نتيجة تفيد، بأن هذا الفارق الكبير، بين الهدم والبناء، هو ما ينطبق تماماً على الحالة الطائفية (التقريب والتفريق/ التعايش والتناحر)، التي باتت كالجائحة التي تغطي منطقة جغرافية تمتد من الأطلسي وحتى تخوم الجنوب الآسيوي، مخلفة وراءها صراعات مفتوحة لا تنتهي، وحياة اجتماعية أكثر تفسُّخاً.
 
تُعقَد مؤتمرات للتقريب بين المذاهب الإسلامية أو الحث على التعايش فيما بينها، ويتداعي العلماء المخلصون والمفكرون من أهل الحصافة من كل مكان، ثم يأتي طائفي أعمى ليشتم رمزاً دينياً أو شخصيةً تاريخيةً يؤمن بها مئات الملايين من الناس أو يُكفِّر مِلَّة، ليُحمِّي العواطف أو يحرقها، فينتهي كل شيء، وكأنها نارٌ تأكل في الهشيم.
 
ذلك الطائفي يفعل ذلك وكأنه يحرق بستاناً من الزرع المتراصّ والمثمر، بعد أن احْدَوْدَبَت ظهورٌ على سَقْيِهِ والاعتناء به. وما أبعد الجهد ما بين الحِراثَة في الأرض زرعاً وغرساً وكسباً، وبين أن يُشعِل حاقدٌ فيها النار، فتأتي على كل ذلك الخير، ولتُمحِي سنيناً من العمل. هذا هو المشهد الحقيقي للمذهبية البغيضة.
 
اليوم، هناك مِضَخَّتَان للطائفية في عالمنا. واحدة لبعض الأنظمة التي تستفيد منها لتحقيق أغراض سياسية (وهي معروفة)، وأخرى لأبواقٍ تستخدم الجَهَلَة والدهماء لا يُظَنُّ بها إلاَّ السوء. كيف؟ فنحن نسألها إن كانت قناة فضائية عن أموال إيجار القمر الصناعي وميزانية الأستوديو ومعدات البث وكامل قوام التنظيم والأصول مع غياب عنصر الاستثمار فيها.
 
من أين تأتي كل تلك الأموال، ومن أيِّ قناة بَنْكِيَّة تتدفق؟ أغلب تلك القنوات تتذرع بالتبرعات، في حين أن المصبّ الأكبر في موازناتها هو من مجرى آخر غير مرئي! وبالتالي فإن القضية هي عبارةٌ عن ماخور لا يُعلَم ما بداخله، سوى أن التوجُّه العام والتفصيلي لتلك القنوات هو فصل الأحداث التاريخية عن سياقاتها وإسقاطها على واقعنا الحالي.
 
قبل أشهر، قامت الـ «بي بي سي» بعمل حلقة خاصة عن القنوات الطائفية رصدت «ستاً هي الأكثر تطرفاً» كما أسمته. أتذكر أن مُعِد البرنامج سَأَل أحد القيِّمين على واحدة من تلك القنوات على وجه السرعة: خطابك المذهبي يُثير مشاعر شباب يسفكون الدماء! فما كان منه إلاَّ أن استدار ليسحب باب سيارته وهو مكفهر الوجه وغادر المكان!
 
شخص آخر، ممّن له قناة فضائية مماثلة في الجهة الطائفية الأخرى، عندما وُوجِهَ بسؤال مماثل بأنك سبب في سفك الدماء في العراق، ضحك بقهقهةٍ كأن فيها سخرية وقال: لا تعليق لدي، ثم انصرف وكأنه يهرب من الحقيقة.
 
هؤلاء بالتأكيد لا يُحسُّون بالأمهات ولا بالآباء الذين يفقدون أبناءهم وهم في عمر الزهور، في العراق وسورية وباكستان وأفغانستان وفي غيرها من البلدان، لأن أبناءهم ليسوا هناك بل معهم، ويتعلَّمون في أفضل الأمكنة، في لامبث وساوث وارك وكنغ ستون وفولما وغيرها، لا يمسّهم سوء، أما الآخرون، فهم وقودٌ لسفاسفهم وتحريضهم الأسْوَد. هل عجزت ضمائرهم من أن تتلمّس بكاء أب وهو ينفخ في فم ابنه المسجَّى في ثلاجة الموتى في بغداد عَلَّه يرجع إليه؟
 
120 قناة دينية تبث للعالم العربي منها 20 شديدة الطائفية حسب الاستقصاء الذي استمر لستة أشهر متواصلة، تلعب على القاتل والمقتول، وهي تُحملِق في دمائهم وهي تُسفَك، ثم يعود المحرّضون إلى بيوتهم ليناموا مع أسَرِهِم، دون أن يسمّهم خدش ولو صغير.
 
المشكلة الخطيرة الآن هي أن تلك المجاميع المشبوهة تريد نقل المعركة الوهمية إلى حيث الجماهير. هي تعلم، أن رمي القضايا الخلافية والتاريخية في التيار العام يعني أن الكوابح فيه معدومة، وهي بالأساس لا تريد كَبْحاً في ذلك الانزلاق، بل تريد فوضى لا حد لها، لأن هدفها الأساس هو أن يخرب كل شيء. ومَنْ يَرِدْ لأمته أن تنغمس في الخراب فهو بالتأكيد لا ينتمي إلى أمته. والسلام.
 
 
الكاتب: محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية – 10 يناير 2015م