المنشور

الجديد في الاقتصادات الخليجية


 
عرضنا في مقالنا السابق “التقليدي والجديد في الاقتصادات الخليجية”  للمسار الذي تشكلت وتبلورت فيه هياكل الاقتصادات الخليجية على مدار نحو أربعة عقود ونيف . وخلصنا إلى أن حصيلة هذا الحصاد التنموي التموجي (المتداعي على شكل موجات متعاقبة توازياً مع قفزات أسعار النفط وإيراداته)، أفضت إلى تعزيز- أكثر منه إعادة تموضع – للقطاعات المفتاحية، ما أنتج مستوى خفيضاً من التنويع الاقتصادي خارج إطار قطاع الهيدروكربون (النفط والغاز تحديداً) الذي استمر في لعب دوره المحوري في قيادة دفة النمو من خلال حصته الكاسحة في تمويل الموازنات العامة ومن خلالها تأمين سخاء الإنفاق الحكومي المحرك الأساس للدورة الاقتصادية الخليجية . ولكن مع التأكيد على حقيقة أن هذا لا يعني ان قطاعات الاقتصاد التقليدي، بما تتمتع به من ركائز قوية، قد أبقت الاقتصادات الخليجية بعيداً عن متناول ما يسمى بالاقتصاد الجديد(New economy) على الإطلاق، فقد كانت دول التعاون مواكبة منذ البدء للاقتصادات الصاعدة في تبني وإنشاء قواعد فروع هذا الاقتصاد، خصوصاً قطاع الاتصالات وقطاع تكنولوجيا المعلومات . 
 
ولكن مع جدارة الملاحظة ها هنا بأن هذا “الفتح” الاقتصادي إن جاز التعبير بالقياس طبعاً لخط الأساس للاقتصادات الخليجية المتمثل في القطاعات التقليدية، قد تحقق أساساً عبر نافذة قطاع تقليدي عريق هو قطاع التجارة الخارجية، وليس نتيجة لاجتماع أصول المعرفة والتقنية مع المورد البشري والرأسمال الوطنيين . كما أن الشواغر الوظيفية الجديدة التي أنشأها هذان القطاعان المحسوبان على الاقتصاد الجديد، ومعهما الأنشطة المتفرعة عنهما، قد جرى اشغالها أساساً من قبل قوة العمل الأجنبية الماهرة في الاختصاصات الجديدة لاقتصاد المعرفة والتكنولوجيا وبقية أفرع قطاعات الاقتصاد الجديد .
 
فما هي دلالة هذا التقرير، المبدئي (الأوّلي) لوقائع المسار التطوري للمضامين الهيكلية للاقتصادات الخليجية؟ وما الذي نبغيه من إضاءته؟ 
 
على الشطر الأول من السؤال نقول بأن دول مجلس التعاون، ورغم النجاحات المعقولة والمتفاوتة مستوىً وعمقاً في سياسية التنويع الاقتصادي (Economic diversification)، إلا اننا ما زلنا محكومين ليس فقط بعطاء وطبيعة أداء القطاعات التقليدية في اقتصاداتنا، وإنما معتمدين، وإن بدرجة أقل من عقدي السبعينات والثمانينات، على ريوع قطاع الهيدروكربون .
 
على أن الاستثناء الجدير بالملاحظة والتنويه في هذا الجانب، هي تجربة دولة الإمارات التي تميزت بصورة جدية وصريحة في فتح مسارات جديدة في اقتصادها الوطني شملت قطاعات تكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا الوسائط الإعلامية وقطاع الطاقة الجديدة(New energy) متمثلاً في الطاقة النووية التي سيتم تدشين أُولى محطاتها لإنتاج الكهرباء بحلول عام ،2017 لتتبعها بثلاثة مفاعلات نووية أخرى سيتم تشغيلها في عام 2020 لتنتج طاقة كهربائية إجمالية تعادل 5600 ميغاوات، وكذلك الطاقات المتجددة (Renewable Energy Sources)، حيث وضعت إمارة أبوظبي لنفسها هدف تأمين 7% من حاجاتها من الكهرباء بواسطة الطاقات المتجددة بحلول العام 2020 . فيما تستهدف إمارة دبي بلوغ نسبة 5% من الطاقات المتجددة بحلول عام 2030 .
 
كما أنشأت دولة الإمارات عدداً من مشاريع ومحطات الطاقة المتجددة أبرزها مدينة مصدر التي تعمل منشآتها بالطاقة الشمسية ومشروع محطة شمس 1 للطاقة الشمسيّة المركزة الذي دشنه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، في شهر مارس من العام الماضي لإنتاج 100 ميغاواط من الطاقة الكهربائية النظيفة، بما يكفي لإمداد 20 ألف منزل في دولة الإمارات .
 
أيضاً فقد قررت الحكومة الإماراتية اقتحام عالم الفضاء ببرنامج واضح ومحدد الأهداف، حيث أعلنت وكالة أنباء الإمارات في السادس عشر من يوليو الماضي إنشاء وكالة الإمارات للفضاء ومشروع إرسال أول مسبار عربي للمريخ من المقرر أن يصل في عام ،2021 وذلك بالتزامن مع الذكرى الخمسين لتأسيس دولة الإمارات في العام 1971 . جرت العادة في التاريخ التنموي المعاصر بأن تتكفل متطلبات الاقتصاد التقليدية بتوليد فرص العمل الجديدة لمقابلة الزيادة السنوية في معروض قوة العمل النشطة اقتصادياً، وإن كان معدل نمو الطلب على الوظائف ينحو، في العادة، نحو تجاوز معدل نمو إجمالي الناتج . هذا في الوضع الطبيعي .
 
اليوم وأمام ازدياد أعداد المتدفقين سنوياً على أسواق العمل فإن هذه المقاربة التقليدية لم تعد قادرة على مجاراة هذا النمو المستمر والمتصاعد للطلب على فرص العمل . فلا بد من فتح خطوط ومسارات جديدة في دواليب الاقتصادات الخليجية مثل قطاع الطاقة المتجددة وقطاع الخدمات اللوجستية المتكاملة والخطوط الجديدة في قطاع السياحة، مثل واحات المتقاعدين وسياحة الترفيه والمهرجانات وقطاع الفنون بأنواعها وغيرها .
 
هنا يأتي دور الإدارة الاقتصادية الكلية الابتكارية، كما فعلت على سبيل المثال لا الحصر سنغافورة قبل نحو عقد حين أنشأت قطاع التكنولوجيا الحيوية مستعينة في ذلك بقمم العقول العالمية المتميزة في هذا المجال وعلى رأسها عالم استنساخ النعجة دوللي، وكما فعلت أيضاً كوريا الجنوبية التي لم تكن قبل منتصف الثمانينات معروفة بأي منتَج من منتجاتها الثقافية والفنية، فإذا هي اليوم إحدى الدول المنافِسة في مجالات الإنتاج السمعي والبصري والثقافي بوجه عام . فالفلبينيون باتوا مولعون بالدراما الكورية الجنوبية، والفرنسيون صاروا يعشقون أغاني البوب والأفلام السينمائية الكورية، وفي العام الماضي بلغ إجمالي قيمة الصادرات الكورية الجنوبية من منتجات ثقافة البوب الكورية 5 مليارات دولار، وتخطط حكومتها لمضاعفة هذا الرقم بحلول عام 2017 . على مقلب آخر سنجد أن العقول الابتكارية في أجهزة الدولة الكورية، بمبادراتها الخلاقة، من قبيل تقديم تسهيلات ضريبية ودعم مالي عبر الصناديق الحكومية لأصحاب المبادرة الخاصة (Entrepreneurs) وأصحاب المشاريع المبتدئين (Start-ups) في مجال صناعة ألعاب الفيديو، قد أنتجت صناعة تدر إيراداً وطنياً يفوق 12 مرة دخل صناعة منتجات أغاني البوب الكورية التي حظيت بدورها في عام 2005 بصندوق دعم حكومي قوامه مليار دولار .
 
هذه إذاً هي الخلطة المطلوبة خليجياً في الزمن الراهن لتحقيق اختراق نوعي في الهياكل التقليدية للاقتصادات الخليجية . .فرق عمل ابتكارية عالية الكفاءة والمهارة مع صناديق دعم مالية متخصصة ومكرسة حصراً لهذا التوجه الاستثماري طويل الأجل .