المنشور

«الكراهية.. صانعة الأعاجيب»


في حمأة الفوضى العارمة التي تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، والتي صبّ ما سمي بالربيع العربي زيته على نارها فزادها اشتعالًا على اشتعال منذ مطلع عام 2011، في حمأة هذه الفوضى تتدافع الأسئلة في رأس المرء المتابع تواتراً بصورة فوضوية هي الأخرى، ربما تحاكي الفوضى المادية الشاخصة أمامها على الأرض العربية، فلا تترك مجالاً لالتقاط خيوطها كاملةً وتفكيك عقدها واحدة تلو الأخرى، لفرز الجوهري منها وترتيب نسقها العام قبل «خوصصته» وغربلته بغية تشكيل مرئية واضحة المعالم تسمح بالتفكر والتأمل فيها لإكسابها الأبعاد التي تنتمي اليها.


فهي ذاتها – الأسئلة المثارة، برسم الفوضى إياها – مرتبكة وغير متجانسة، ربما لأنها، وهو الأرجح، انعكاسٌ «منطقي» لحالة الفوضى التي تنقلها لمركز المخ للتعامل معها، استقبالاً وقراءةً وتمحيصاً وتحليلاً.  فما نشهده اليوم، مصوراً ومبثوثاً بالصوت والصورة، من مشاهد قتل ودمار عشوائي وعدمي على مدار الساعة، وعلى امتداد أرضنا العربية من محيطها إلى خليجها، لهو نوع من التطاحن الذي يعيد إلى الأذهان تطاحن الطوائف العربية في الأندلس في تلك الفترة التاريخية التي بدأت حوالي عام 1021 حين أعلن الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية في الأندلس، ما حدا بكل أمير من أمراء الأندلس لإقامة دويلته المنفصلة، وتأسيس أسرة حاكمة من أهله وذويه. وخلال عقدين اثنين (1020 و 1030)، وعلى إثر سقوط الخلافة نتيجة لثورة الأمازيغ وظهور ملوك الطوائف الذين قسموا الدولة إلى 22 دويلة، منها غرناطة وإشبيلية وألمرية وبلنسية وطليطلة وسرقسطة والبرازين والبداجوز ودانية والبليار ومورور- فلقد ورثت تلك الدويلات ليس فقط ثراء الخلافة، وإنما ورثت إلى جانبها عدم استقرار الحكم والتناحر المستمر بين بعضها بعضا، ما جعلها فريسة لمسيحيي الشمال الإسباني، حتى وصل الأمر إلى أن يدفع ملوك الطوائف المسلمين الجزية للملك ألفونسو السادس، والاستعانة به على بعضهم بعضا. والنتيجة هي تشظي هذه الدويلات ال22   وانهيارها جميعاً على وقع صخب تناحرها.


فمن أين قفز لنا وداهمنا، نعم ليس على حين غرة، مارد الكراهية العمياء التي صارت تسم علاقات معظم القوى المجتمعية في العالم العربي، بطوائفها المختلفة، متجسداً في كل هذا التضاد الصارخ في الأمزجة والأهواء والنزعات التي كانت قبلاً إنسانية قبل أن يجرفها سيل الكراهية باندفاعته المجنونة؟
سوف نقرر بدايةً أن الخلافات بين مختلف القوى المجتمعية، بكافة أطيافها العرقية والطائفية..إلخ، كانت دائماً قابعةً في كمونها الذي تبقى «ساكنة» في كنفه، لا يوقظها ويخرجها من كمونها سوى بعض «الانفلاتات» التي يفرزها لحظياً بعض الاحتقانات حين وصولها لأقصى درجة غليانها. ولذا فإن هذه الخلافات كانت دائماً «مستقرة» في منزلتها الطبيعية المتوارية أمام التقدم المحرز الذي ظلت تحققه عملية التحول في بناء الدولة المدنية الحديثة التي راحت تقطع رويداً رويداً مع علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية، قبل أن يوضع حد لهذا المسار التقدمي ويتم القطع مع التحول التحديثي والتمديني المتواسق مع مقتضيات واستحقاقات الانتماء للعالم المعاصر وإنجازاته الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والثقافية، في لحظة تاريخية فاصلة اعتباراً من مطلع عقد ثمانينات القرن الماضي الذي شهد حدثين ضخمين كانا بمثابة زلزالين ضربا المنطقة وما جاورها، ونعني الثورة الإيرانية في عام 1979 والتدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان في نفس العام. فلقد آذن ذلك بإدخال المنطقة وشعوبها في «عش الدبابير» الذي لا يبدو أن بمقدورها الفكاك من آساره بعد أن استجابت بحماس منقطع النظير لدعوات الفزعة المذهبية والعرقية والطائفية والانخراط الكلي في خليط من الحروب الباردة والساخنة ملؤها استنفار ونفث سموم مشاعر الكراهية والضغائن والأحقاد إلى الحدود القصوى المفضية إلى التناحر الجنوني بين أبناء الأمة الواحدة والدين الواحد والحضارة الجامعة. وإذا ما صدقت ادعاءات إدوارد سنودين العميل السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية التي نشرها موقع «ذي انترسيبت» في يوليو(تموز) من العام الماضي حول تعاون أجهزة مخابرات ثلاث دول هي الولايات المتحدة وبريطانيا و«إسرائيل» لخلق تنظيم إرهابي قادر على استقطاب المتطرفين من جميع أنحاء العالم في مكان واحد في عملية يرمز لها ب«عش الدبابير»، وهي خطة بريطانية قديمة تعرف ب«عش الدبابير» تقضي باستنبات مذهب شعاراته إسلامية مبنية على مجموعة من الأحكام المتطرفة الرافضة لأي فكر آخر منافس وذلك بهدف توفير الحماية ل «اسرائيل» (ذلك أنه وبموجب وثائق سنودين، فإن الحل الوحيد لحماية «إسرائيل» يكمن في خلق عدو قريب من حدودها، لكن سلاحه موجه نحو الدول الإسلامية الرافضة لوجوده، مثلما كشفت تسريبات الموقع أن زعيم «داعش» أبوبكر البغدادي خضع لدورة تدريب عسكرية مكثفة استمرت عاماً كاملاً على أيدي عناصر في الموساد «الإسرائيلي»، بالإضافة إلى تلقيه دورات في فن الخطابة ودروساً في علم اللاهوت) ، نقول إذا ما صح كلام سنودين، فهذا يعني أن خطة «عش الدبابير» قد حققت نجاحاً منقطع النظير، إذ أثبتت الكراهية أنها صانعة الأعاجيب في مجتمعاتنا التي مازال الماضي يشدها كلما آنسها الحاضر وجذبها المستقبل اليه.

 
إذاً مشاعر الكراهية استُثيرت، ووُظفت كسلاح لا يقل خطورةً وتدميراً عن أسلحة الدمار الشامل الحديثة. وقد أثبت هذا السلاح الفتاك أنه صناعة رائجة بالنظر لمفعوله السحري العجيب في سرعة إيغال الصدور وإحماء الرؤوس بمبثوث أحقاده وضغائنه، ومراكمتها ثم صهرها في بوتقة كراهية فئات المجتمع الواحد لبعضها بعضا، وإهدارها لما كان مستقراً من خصوصيات لم تخترعها أيٌ منها وإنما ورثتها كأسمائها من أسلافها في نفس الحاضنة والبيئة الاجتماعية التي شاءت ظروف المكان والزمان وتقلبات الدهر أن تضعها جميعاً في مستقر واحد تتعايش وتتساكن فيه من دون أن تشكل هوياتها الفرعية هذه أي معوق أو منغص لتعايشها وتساكنها لعقود مديدة في كنف الهوية الكلية الجمعية.


الآن وقد جُرِّب سلاح الكراهية، وقد أثبت، بلا جدال، فاعليته كسلاح فتّاك صانع للعجائب، لماذا لا يتم تجريب فضيلة الحب والتوادد، لإعادة بناء ما تم هدمه وتدميره على أيدي الكراهية؟..فالأكيد أن مفعولها كصناعة، أقوى وأوسع وأكثر تأثيراً من مفاعيل صناعة الكراهية. فضلاً عن أن فضيلة الحب والتوادد، هي صناعة بناء وتعمير، على عكس صناعة الكراهية المكرسة للتخريب والتدمير.
 
حرر في 15 مايو 2015