المنشور

هــل نحســــن المعايـــــنة..؟!


ارتفع منسوب الكلام المحذر من ارتفاع العجز المالي، وتخفيض الانفاق فى الموازنة، وتداعيات تفاقم حجم الدين العام المرشح للارتفاع فى السنوات القليلة المقبلة، وهو كلام يتزامن مع لغط مثار حول موضوع اعادة هيكلة الدعم الحكومي، وتداعيات رفع الدعم عن اللحوم وموقف النواب الرافض لتفرد الحكومة بتحديد مسار الدعم..!!، وهو لغط يقلق المواطن، ويزيد من قلقه التصريحات والتحليلات والاستنتاجات التى تدخل على خط توقع المزيد من المفاجآت، وتجعله فوق سطح صفيح ساخن يترقب أشياء وأشياء فى الطريق باتت تقرع طبولها وتطير النوم من اعين المواطنين ذوي «الدخل المهدود»، ويزيد من قلقهم هذا الكلام عن العموميات والتطمينات الطوباوية التى تنهمر كالسيول ولكنها لا تضع النقاط على الحروف..!!

الكلام عن العجز المالي وتفاقم الدين العام، وسبل تخفيف أعباء خدمة هذا الدين، كلام يتردد منذ اشهر قليلة فى أوساط سياسية وبرلمانية واقتصادية، الى درجة انه كاد ان يتحول، او صار وانتهينا، ملف مليء بالأحجية ويكتنفه الالتباس، والمواقف المتباينة ان لم تكن المتعارضة، وفى كل الأحوال بدا الأمر برمته وكأنه يهيئ الناس لإعداد العدة لإجراءات لاتزال كامنة تنتظر.

الكلام المنسوب للسياسيين فى شأن هذا الملف احسب ان منه ما يصب فى اتجاه الدعوة الى التحلي بالواقعية فى ما تقتضيه الظروف المالية الراهنة والضاغطة، ومنه أيضاً ما يفسر بانه دعوة الى الذهاب الى اصل العلل وأساسها بتجرد وشجاعة، واذا لم نفعل ستكون مجريات الأمور مستعصية، وتكون على نفسها قد جنت « براقش»..!!.

أما كلام النواب، فمنه من لا يحمل اي رؤية سوى التصريحات الفارغة الطنانة التى يريد منها هذا النائب او ذاك ان يشعرنا بوجوده، وبالمقابل ثمة كلام لنواب يدعو الدولة بان تصلح اوضاعها وان تعمل بشكل بناء ورشيد، ويطالب بما يضمن تحقيق العائدية الحقيقية للإنفاق الحكومي، خصوصاً فى المجالات التى يحصل فيها تذمر من عدم إشباع الحاجات التى يفترض ان تشبعها هذه النفقات، ويدعو الى مراقبة الإنفاق، وأوجه صرف المبالغ المقترضة، والى معاينة حقيقية لأوجه الخلل والقصور والخروج من حالة الوهن المالية.

يهمنا اليوم الكلام المنسوب لاقتصاديين، فهم اولا يخشون من ميزانية الأمر الواقع وليس ميزانية التخطيط، ويحذرون من مغبة كارثة على الاقتصاد اذا ما استمر سقف الدين العام فى اتجاه تصاعدي، واذا ما أدى ارتفاع العجز المالي فى الموازنة العامة للسنتين الماليتين 2015-2016 الى انخفاض التصنيف الائتماني وما يؤدي اليه ذلك من إفرازات منها رفع فائدة الاقتراض، وارتفاع كلفة خدمة الدين العام حتى على المؤسسات المالية والمصرفية، مما سيلقي بضلاله على ارتفاع كلفة تنفيذ المشروعات. وصولاً الى ما يمس المواطن العادي.

 الاقتصاديون سواء فى الندوة التى نظمتها الجمعية البحرينية للشفافية، او فى فعاليات ومناسبات أخرى قالوا الكثير، وربطوا المشاكل المالية بقضايا الهدر والتبذير وغياب التخطيط، ومنهم من اكد بان الاستدانة ناجمة عن ارتفاع المصروفات وليس بسبب انخفاض اسعار النفط، واشاروا الى تبعات استمرارية الاعتماد على القطاع النفطي، على الرغم من كل الحديث الصاخب منذ سنوات طويلة عن تنويع الاقتصاد، ولفتوا الى ان الموازنة التى يفترض انها أداة تنفيذية لخطط وبرامج موضوعة فقدت هذه الوظيفة لأن 86 فى المائة هى مصروفات متكررة، ونحو 82 فى المائة من الإيرادات هى إيرادات تعتمد على النفط، وخلصوا الى ان الموازنة تعتبر اول تحد رئيسي لبرنامج عمل الحكومة ومواجهة اكبر عجز فى الموازنة العامة فى تاريخ البحرين، وكشفوا بلا عناء المعطيات العميقة فى الواقع الاقتصادي الراهن، ودعوا الى إدراك هذا الواقع حق الإدراك..

ربما علينا الى جانب ذلك ان نعيد التذكير بتحديات اخرى لا تخفي على فطنة ذوي الفطنة، فهي تتمثل فى كيفية ومدى الجدية فى وقف أبواب الهدر والتبذير ومواجهة حاسمة لكل مظاهر الانحراف والفساد، وتحسين اداء المرافق العامة وتخفيض تكاليف استعمالها وصيانتها، ومواجهة مشكلة قلة الإنتاجية، وتبعات استمرار دعم بعض الشركات الحكومية بمئات الملايين من الدنانير سنوياً، ولكن العائد منها في الميزانية العامة عشرات الملايين..!!، بجانب تحد يتمثل فى اعادة هيكلة الادارة الحكومية، وسيكون قصر نظر ان اعتبرنا ان هذه الهيكلة تقتصر على تبسيط الاجراءات والمضي نحو الحكومة الإليكترونية، اوالحكومة الذكية، بل هي تغيير جذري فى الأسس والمفاهيم والعقليات، والتحول من مفهوم السلطة الى مفهوم خدمة الناس، ومن منطق التركيز على الاجراءات الى منطق التركيز على النتائج، والتحول عن منطق الأجهزة الحكومية كونها وحدات تنفق عليها الاعتمادات المخصصة لها فى الموازنة الى كونها وحدات إنتاجية ترتكز على ثقافة الانجاز والإتقان وتنمي إيراداتها وتسعي لتحقيق التكلفة الاقتصادية لما تقوم به من أنشطة وما تقدمه من خدمات وما تحققه من قيمة مضافة ومنفعة مجتمعية، وكذلك التحول من نمط موازنة الاعتمادات الموزعة على أبواب الى موازنة للبرامج والأداء والأهداف القابلة للقياس والخاضعة للمساءلة والمحاسبة.

نحن على يقين بأننا امام ملف مليء بالتحديات، يفترض ان يكون محل نقاش عام، وقدرتنا على الابتكار فى مواجهة هده التحديات ومعالجة ما يشكوا منه الناس يرتبط بإجراء معاينة حقيقية للمشاكل التى نعانيها، المهم نكون بمنتهى الجدية وقبل ذلك علينا ان نحسن المعاينة، فتلك هى الخطوة الأولى التى تدفع الى العلاج والأمل وليس الى خيبة الأمل..!!