المنشور

الاقتصادات الخليجية .. الى ترشيد الأداء


على مدار أربعة أعوام ونصف العام، تمتعت اقتصادات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية  بوضع انفاقي (من خلال الموازنات العامة) مريح للغاية، كفله سعر برميل النفط الذي حلق فوق حاجز المائة دولار وسطيا، ووفر إيرادات نفطية سمحت لوزارات المالية بتصميم موازناتها على أساس إيرادات نفطية مقومة بسعر عال للبرميل لرفع سقوف مخصصات الانفاق الاستثماري والانفاق الجاري.
 
     ولكن فجأة وعلى حين غرة، دوهمت بلدان مجلس التعاون بتدهور سعر برميل النفط  وانخفاضه انخفاضا حادا ومتواتر لم يكن في حسبانها وهي التي كانت موازناتها العامة وموازنات شركات قطاعاتها البترولية على وشك إنهاء سنتها المالية وفقاً للحسابات والتقديرات الموضوعة قبل بداية العام الماضي اعتبارا بمواصلة سوق البترول الدولية استقرارها على أساس متوسط سعر برميل النفط الذي راوح حول مائة دولار. ولم يكن يدر بخلدها أنها ستفقد بضربة واحدة حوالي 50% من ايراداتها النفطية المفترضة نتيجة لهذا المستجِد السيء.
 
     وبالتأكيد سوف تتفاوت تأثيرات هذا الانهيار للأسعار على الماليات العامة للدول الخليجية وعلى أفق نموها الاقتصادي خلال العام الفائت والعام الجاري. ولعل هذا التفاوت في تقدير تأثيرات انهيار الأسعار، ناجم عن تفاوت تقديرات إيرادات الموازنات الخليجية لعام 2014 المحتسبة على أرقام متفاوتة لسعر برميل النفط. حيث قدرت دولة الكويت إيراداتها على أساس 75 دولاراً للبرميل، وقطر 65 دولاراً للبرميل، والسعودية 88 دولاراً، والبحرين 90 دولاراً، والإمارات 70 دولاراً، وسلطنة عمان 85 دولاراً.
 
     في ضوء ذلك فإن من الطبيعي أن يتم أخذ هذا المستجد الكبير في الحسبان عند تصميم الموازنات الخليجية العامة للعام الجاري 2015، وأن تكون تقديرات الايرادات التي يأتي حوالي 80% منها في المتوسط من مبيعات النفط، متحفظة بعض الشيء قياسا للأعوام الأربعة السابقة. فلقد أقر مجلس الوزراء السعودي في جلسة استثنائية، موازنة عام 2015، تضمنت إنفاق 860 مليار ريال، مقابل ايرادات متوقعة قدرها 715 مليار ريال، بانخفاض 135 مليارًا مقارنة بتوقعات موازنة عام 2014 البالغة 855 مليارًا. وتتضمن موازنة 2015 عجزًا تقديريًا مقداره 145 مليارًا، سيجري تمويله من فائض احتياطيات الموازنات السابقة أو عبر الاقتراض. وقد تم احتساب هذه الموازنة على سعر نفط للبرميل قوامه 75 دولاراً، وهو سعر أعلى من السعر الذي يتداول عنده النفط حاليًا والمقدر بنحو 60 دولاراً.
 
     في سلطنة عمان أصدر السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان في الحادي من يناير الماضي مرسوما سلطانيا ساميا رقم (1 /2015) بالتصديق على الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2015، تضمنت عجزا قدره 2.5 مليار ريال عماني، إذ بلغ حجم الانفاق فيها 14.1 مليار ريال في حين قدر حجم إيراداتها بـ 11.6 مليار ريال. مع ملاحظة أن السلطنة اختارت الرد على انحدار أسعار النفط بسياسة مالية توسعية أكثر منها تقشفية، وذلك باستهدافها نموا نسبته 5%، تعويلا على تعظيم جهودها في تنشيط قطاع السياحة واطلاق مشاريع بنية تحتية رئيسية مثل مرحلة صحارـالبريمي من مشروع سكة الحديد ، والمرحلة الأولى والثانية من طريق أدم ـ ثمريت المزدوج، ومجمع الصناعات السمكية في الدقم، ومشروع خط أنابيب المنتجات النفطية (مسقط ـ صحار)، ومشروع تطوير البنية الأساسية لرفع إنتاج الاستزراع السمكي،  وإنشاء عدد (3) فنادق (5) نجوم و(4) نجوم في محافظة مسقط، واستكمال تنفيذ مشروع مركز عُمان للمعارض والمؤتمرات، ومشاريع صناعية وسياحية وخدمية أخرى. وقد تم احتساب سعر برميل النفط في الموازنة على أساس 85 دولار ومعدل انتاج يومي للنفط قدره 990 ألف برميل.
 
     دولة الامارات العربية المتحدة اعتمدت موازنتها العامة الاتحادية لعام 2015 بإجمالي نفقات بلغ 49.1 مليار درهم (13.4 مليار دولار)، بزيادة 3 مليارات درهم عن موازنة عام 2014، سيخصص نصفها للمشروعات الانتاجية والتنمية الاجتماعية. وفي التقديرات فإن الموازنة يمكن أن تسجل فائضاً قدره 7% من الناتج المحلي الإجمالي للعام الحالي، سيتقلص طفيفا إلى 5.8% في العام المقبل، نتيجة هبوط أسعار النفط، مع العلم أن سعر التعادل اللازم لتحقيق التوازن في الموازنة هو 70 دولار للبرميل.

وستوظف استثمارات ضخمة في قطاعي النفط والغاز لزيادة انتاجها النفطي إلى 3.5 مليون برميل يومياً بحلول عام 2017. كما خصصت 25 مليار دولار لتطوير مشاريع الغاز وإنشاء شبكة على المستوى الوطني، وستنجز أبو ظبي بنهاية العام الحالي مشروع تطوير “شاه” للغاز الحمضي الذي تديره شركة الحصن للغاز بتكلفة 10 مليارات دولار، بطاقته انتاجية اوّلية تبلغ مليار قدم مكعب يومياً. ويصل اجمالي أصول الصندوق السيادي لدولة الامارات الى حوالي تريليون دولار، أو ما يعادل نحو 16 في المئة من الثروة السيادية العالمية.
 
     أما دولة الكويت فقد توقع وكيل وزارتها المالية خليفة حمادة ان يتراوح السعر الذي يتم بناءً عليه تقدير الايرادات النفطية ضمن مشروع الميزانية للسنة المالية المقبلة 2015-2016 بين 55 و 60 دولارا امريكيا للبرميل انخفاضا من سعر 75 دولارا للبرميل في ميزانية 2014-2015. وأما دولة قطرفإن موازنتها للسنة المالية الممتدة من 1 أبريل/نيسان 2014 إلى 31 مارس/آذار 2015، قد وضعت على أساس سعر برميل للنفط قدره 65 دولارا، وقد تم تمديد العمل بها حتى نهاية العام الجاري. وهو ما يعني عدم خفض النفقات تأثرا بانخفاض أسعار النفط بقصد استمرار الحكومة في تنفيذ المشاريع الرئيسية في البنية التحتية والنقل، خاصة مشاريع السكة الحديد والمشاريع الأخرى المرتبطة باستضافة كأس العالم لكرة القدم 2022. وزارة المالية بمملكة البحرين أعلنت على لسان وزير ماليتها الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة في جلسة مجلس النواب المنعقدة في 10 مارس 2015 أنها ماضية في الاقتراض لسد العجز المتوقع في الموازنة العامة المقبلة للدولة لعامي 2015-2016، مشيرة إلى أن اللجوء للاقتراض خطوة حتمية وضرورية لتلبية متطلبات الموازنة العامة.
وان رفع سقف الاقتراض من 5 مليارات دينار إلى 7 مليارات دينار أصبح، كما تقول “من المتطلبات الأساسية لتوفير مساحة كافية للحكومة لتغطية الزيادة في عجز الموازنة ومواجهة أية احتياجات تمويلية ضرورية أو طارئة للموازنة العامة للدولة عن طريق أذونات الخزانة وسندات التنمية وأدوات التمويل الإسلامية”. محذرة من أن “الإنفاق على أساس 60 دولاراً لسعر بيع برميل النفط يعني أن كثيراً من المشاريع سيتوقف. وقدرت الوزارة بأن سعر بيع النفط المطلوب لتحقيق التوازن في الموازنة سيكون عند سعر يتجاوز 140 دولاراً أميركياً في السنة المالية 2015، وذلك في حال بقاء تقديرات مصروفات الموازنة عند نفس مستوياتها في السنة المالية السابقة. وهذا يوضح الصعوبات البالغة التي سببها انهيار أسعار النفط للمالية العامة للبحرين.
 
     ويدلنا هذا الاستعراض لتوجهات السياسة المالية لدول التعاون للسنة المالية الجارية، بأن غالبيتها، بما فيها مملكة البحرين، اختارت الرد على انهيار أسعار النفط وخسارة حوالي 50% من ايرادات موازناتها العامة، بسياسة مالية توسعية وليس بسياسة تقشفية كما توقع بعض المرافبين. وهذا جيد خصوصا بالنسبة للدول التي تمتلك احتياطيات نقدية وفيرة تستطيع بها تغطية “الفاقد” في موازناتها جراء خسائر انهيار أسعار النفط. وأما الدول التي تعاني من انكشاف وضعها المالي نتيجة لمراكمة نسبة الدين العام الى اجمالي الناتج، وعدم تمكنها من السداد الجزئي لهذا الدين من فوائض الموازنة المتحققة في سنوات اليسر المالي، فإنه سيتعين عليها أن تكون أكثر حذرا في إدارة سياستها المالية التوسعية في هذا الظرف، بتثقيل جرعات ترشيد الأداء وكفاءة توظيف مخصصات الانفاق بشقيه الجاري والاستثماري، كي تتمكن من العودة سريعا لموازنة الانفاق مع استحقاقات سداد الدين العام. وترشيد الأداء وكفاءة استخدام وتوظيف مخصصات الانفاق الجاري والاستثماري ينطبق أيضا، وإن بدرجة أقل، على الدول التي تتمتع بموقف مالي مريح توفره لها احتياطياتها النقدية.