المنشور

المجتمع المدني.. جديد ولا جديد..!!


في ظل موجات الجنون التي تحيط بنا من كل جانب ومن دون هوادة، والمتمثلة في حروب وصراعات وعنف وقتل واقتتال، وإرهاب وتكفير وتخوين، وجرائم ضد الانسانية، وشروخ في قيم العدل والعقل، نستقبل خبر منح جائزة نوبل للسلام لأربع من منظمات المجتمع المدني في تونس لكونها نجحت في صناعة توافق وطني، وتمكنت من قطع الطريق على من أراد احتكار الحقيقة الدينية والدنيوية، لم تكفر أحداً، ولم تخن أحداً، لم تقصِ او تشوه من سمعة احد، وتمسكت بالحد الممكن من قيم العقل والتسامح، بذلت جهداً من اجل ترويض القوى المتشددة بمقتضيات العمل الشرعي حتى وإن كان على مضض، فقد تصدى المجتمع التونسي لما اراد ان يقسم المجتمع الى كفار ومسلمين، ومن رفع السلاح ضد الدولة، واعتبر سيادة الشعب كفراً، والحرية الشخصية باطلة وفاسدة، والدولة المدنية والعلمانية بدعة وضلالة، واحسب ان ذاكرة من يتابع الشأن التونسي لا زالت تحتفظ بالشعارات التي حملتها قوى المجتمع التونسي والتي حملتها التظاهرات التي جابت شارع الحبيب بورقيبة، اهم الشوارع الرئيسية في تونس، فقد حملت عناوين «لا خوف ولا رعب.. السلطة ملك الشعب»، «خبز وماء والتطرف لا.. خبز وماء والسلفية لا»، وشعار «نعم للتفكير.. لا للتكفير»، و«المرأة خط احمر»، و«نعم لفصل الدين عن الدولة»، و«الايمان ايماني.. ارفع ايدك عن قراني»، والخلاصة، خلاصة كل حراك المجتمع المدني وقواه الفاعلة، تحقيق الوحدة الوطنية التي مرت حتماً بالمصالحة الوطنية الشاملة.. وكانت هذه هي سكة السلامة التي جعلت تونس تتجاوز حالة الانفلات الأمني واللا استقرار، واللا يقين، وحالة الخوف من وعلى المستقبل. 

تونس ما بعد 14 يناير 2011 وعلى حد وصف الكاتب التونسي العفيف الأخضر استيقظت فيها جميع الانانيات الفردية والجهوية، والدينية والدنيوية، وهذا يعني ان كل الأطياف والمشارب والطبقات والنخب والقوى والجهات بلا أدنى استثناء شاركت في البناء وتفادت حرب الجميع على الجميع.!! 

المجتمع المدني في تونس عريق ومفعم بالحيوية، ويمتلك ميكانزمات قوية رغم القمع الممنهج ايام زين العابدين، هذا ما استشعرته شخصياً خلال زيارتي الى تونس قبل نحو شهر، ولمست الى اي مدى هي مؤسسات المجتمع المدني متحررة من اجهزة السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية، وكم هي تتمتع بقدرات تعبوية كبيرة، وفي المقدمة منها الاتحاد التونسي للشغل، فهو اتحاد له ثقل جماهيري ويبلغ عدد منتسبيه 500 الف عضو وله كلمة مؤثرة في تسيير دفة السياسة في البلد، وكذلك الحال بالنسبة لنقابة المحامين، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والرابطة التونسية لحقوق الانسان، كل له تأثيره ودوره واسهاماته في الحياة السياسية وفي خدمة المجتمع التونسي، فقد أتاحت اللجنة الرباعية إقامة نظام حكم دستوري يضمن الحقوق الأساسية للجميع من دون شروط تتصل بالجنس والأفكار السياسية والمعتقد الديني، وهو الأمر الذي شكل نموذجاً مميزاً ومشرفاً في الأداء السياسي، وجعل تلك المؤسسات الأربع تستحق بجدارة جائزة نوبل بعد ان قادت الحوار الوطني وأوصلته الى بر الأمان، وقدمت بحسب حيثيات منح الجائزة بديلاً سياسياً سلمياً لإرساء قواعد التحول الديمقراطي، حقق وفاقاً جنَّب البلاد الانزلاق في مسار العنف، ومكن من مد جسور الحوار بين قوى المجتمع، واثبت فاعلية هذا المجتمع في تشكيل الرأي العام وعلى التغيير وانجاح التحول الديمقراطي.

يا ترى، هل يمكن ان يكون هذا النجاح لقوى المجتمع المدني التونسي بمثابة رسالة للمعنيين في الدول العربية، يتقبلونها برحابة صدر، يتفهمون مغزاها، فهي رسالة وبشكل لا لبس فيه تقول انه لا بد من النهوض بواقع مؤسسات مجتمعنا المدني، وانه ليس من حل لمشاكلنا التي تضربنا في العمق، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، الا بمجتمع مدني حقيقي، غير مكبل بالقيود، وغير مهدد بالالتباسات المفتعلة والتفاسير المتآمرة عليه والمشككة فيه، لا يستخدم كإسفنجة لامتصاص الاعتراضات والشكاوى، ولا يواجه بالشك والريبة والمكائد والشبهات والتهديد من السلطة، الرسالة تقول أيضاً بانه لا فائدة من منظمات مجتمع مدني صورية، او هشة، او صنيعة انتهازيين يظهرون كأبطال، او جماعات اصحاب المصالح يستهدفون الدعاية والشهرة والإعلام والمال تصرف اهتماماتها في الشكليات وأرخص الاهتمامات، وجعل هذه المنظمات «تحت الطلب»، او تحت هيمنتها او تحت ارادة الغير، وكأنها قاصرة او ناقصة أهلية، همهم امتيازات ومصالح خاصة وان يكون لهم حضور، وان يتصدروا الصفوف والواجهات، لانه من دون مؤسسات او جمعيات او نقابات او اتحادات يهيمنون عليها، ويسيرونها كيفما شاءوا لا مكانة لهم ولا «رزة» وهم في منطق الناس لا اعتبار لهم رغم انهم يقدمون انفسهم في ثوب الوطنية..!!

هل يمكن ان تفهم الرسالة في الدول العربية على ذلك النحو، وهل ندرك حقاً بان العلاقة الصحية التكاملية بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني أمر في غاية الإلحاح والأهمية، وانه من الخطأ ان نكرر دائماً على مسألة الشراكة مع هذه المؤسسات من غير إدراك ان مضمون علاقة الشراكة يفترض وجود روابط التكامل والتعاون والتنسيق، كما يشترط توفر سمات الندية والاستقلالية لكل من طرفيه إزاء الآخر.. وعلى هذا الأساس لا بد من إدراك ان وجود المجتمع المدني الفاعل والمؤثر في كل موقع وقطاع، يعني وجود دولة القانون والديمقراطية، والمشاركة السياسية، وبناء المواطنة وتحقيق التلاحم والانتماء الوطني. وكذلك إدراك بان المجتمع المدني هو مضمون الدولة الحديثة، والدولة الحديثة شكله السياسي، وهما معاً يشكلان النظام الديمقراطي.

عدم إدراك تلك الحقيقة معضلة، من المؤكد انه حان أوان مواجهتها، والبدء بعملية نهوض حقيقي لواقع مؤسسات المجتمع المدني بامكانياتها الخلاقة وقواها الحية، نهوض لا يهمش المجتمع المدني ولا يغيبه ولا يجعله مستباحاً، او كماً مهملاً خارج نطاق الفاعلية والتأثير، وسيكون من الخطأ الفادح ان يصبح هذا الهدف فرضية وهمية رغم انه بات مهماً إيلاء «الأوهام» قسطاً من التأمل الجدي..!!
 
 
حرر في:   20  اكتوبر 2015