المنشور

عودة الجدل بشأن دولة الرعاية

بعد زهاء أربعة عقود من تطبيقات الليبرالية الجديدة (New Liberalism) انطلاقاً من بريطانيا على يد رئيسة الوزراء
البريطانية الراحلة مارجريت تاتشر والتي حملت فيما بعد اسمها تاتشريزم، وبمعيتها
الولايات المتحدة على يد الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان لتحمل اسمه هو الآخر
ريغانومكس (Reganomics)
والتي نفذتها كافة البلدان الأوروبية الـ 28 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تقريباً،
بما فيها الدول غير المنتمية إلى منطقة اليورو (18 دولة) في أعقاب الارتدادات
الاهتزازية التي أعقبت اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008 والتي لازالت
إلى اليوم تلقي بظلالها على اقتصادات اليونان والبرتغال واسبانيا وايرلندا
وإيطاليا وقبرص وصولاً إلى – وإن بدرجات أقل – إلى الدول الأوروبية المركزية مثل
فرنسا وبريطانيا – اليوم ومن جراء تلك السياسات المنحازة بصورة كاسحة لمصلحة رأس
المال، فإن حالة من الإفقار الشديد لشرائح واسعة من سكان هذه البلدان والبلدان
الأخرى في العالم النامي التي سايرتها في نهجها، باتت تطبع البعد الاجتماعي للنمو
والتنمية – بعد تلك العقود الأربعة، واليوم، وبعد السياسات الأوروبية التقشفية
المتطرفة، فإن جميع مكاسب الرأسمالية الاجتماعية التي صنعتها الرأسمالية الأوروبية
بعد الحرب العالمية الثانية، تكون قد أصبحت في خبر كان.
 
وكان لابد أن يترتب على ذلك ارتفاع منسوب الإفقار والتهميش لشرائح أوسع من
الطبقة الوسطى بعد أن وصل معدل البطالة في بلدان مثل اليونان وأسبانيا والبرتغال
إلى أكثر من 20% بالتزامن مع تدهور الدخول المتاحة (Disposable incomes) للسكان بوجه عام نتيجة لسياسات التقشف الصارمة.
 
الهند التي بنت نموذجها الاقتصادي بعد الاستقلال عن بريطانيا في عام 1947
استناداً إلى سياسات الرأسمالية الاجتماعية ونماذجها في الدول الاسكندنافية، وإلى
حد ما ألمانيا بعد الحرب، الهند إحدى الدول النامية التي تحولت إلى سياسات التحرير
الاقتصادي الراديكالية التي اقتربت في بعض مستوياتها من السياسات النيوليبرالية،
ما تحوَّل إلى خطر يهدد بزحف الفقر نحو مواقع الطبقة الوسطى التي أنشأتها إصلاحات
السوق التي بادر إليها حزب المؤتمر في ثمانينيات القرن الماضي.
 
وكان هذا كافياً لأن يتحرك برلمانها بسرعة لتمرير تشريعين يهدفان لحماية
الحد الأدنى من الحاجات الأساسية لمئات الملايين من الشعب الهندي. التشريع الأول
الذي سمي بقانون أمن الغذاء، قضى بمنح 67 من سكان الهند الحق في الحصول على 35
كيلوغراماً من الرز أو القمح بسعر ثلاث روبيات هندية للكيلو (ما يعادل أقل من خمسة
سنتات أمريكية)، وتقديم وجبات للأطفال وللنساء المرتقب تحولهن إلى أمهات وتوفير
الدعم للحبوب الغذائية المتوفرة. ومع أن هذا التشريع ترتب عليه إضافة 6 مليارات
دولار إلى العجز السنوي للموازنة الهندية، إلا أنه سيجنب البلاد خطر المجاعة وسوء
التغذية.
 
وقضي التشريع الثاني بتقديم تعويضات عادلة ومجزية لأصحاب المزارع الصغار
الذين تتملك الدولة أراضيهم لأغراض التنمية في بلد يعتمد ثلثا سكانه على الزراعة.
كما يشترط حصول الدولة على موافقة 80% من ملاك الأراضي موضوع الاستحواذ للاستغلال
التنموي العام، قبل تملكها من قبل الدولة، فضلاً عن تضمين التشريع الجديد إلزام
الحكومة بإعادة تأهيل المتضررين من الاستحواذ وإعادة توطينهم، وتعويض المزارعين
المستأجرين لقطع الأراضي عن انقطاع أرزاقهم وتوظيفهم في المؤسسات التي استحوذت على
أراضيهم.
 
وبهذين التشريعين، قانون أمن الغذاء وقانون استملاك الأراضي، تحاول الهند
إعادة الاعتبار، أو بعضه، إلى إحدى وظائف الدولة الجوهرية، والمتمثلة في مسئوليتها
عن حفظ التوازن الاجتماعي من خلال دالة دولة الرعاية التي أذهبتها رياح التحرير
الراديكالي الجارف.
 
وفي تقديرنا أن توافق أعضاء المؤسسة التشريعية الهندية على سن هذين
التشريعين، والسرعة التي تم بها إقرارهما في برلمان عُرف ببطء حركته وقراراته،
يعكس استفاقة مبكرة لدى كل من السلطة التنفيذية (الحكومة) والسلطة التشريعية، فيما
يتعلق بضرورة التصرف السريع وبمسئولية إزاء تمخضات الانفلات بعيداً عن الدور
التقليدي الذي ظلت تضطلع به الدولة الهندية منذ ما بعد الاستقلال كدولة راعية
لشبكة برامج الرعاية  الاجتماعية الموازية
لديناميات النمو الاقتصادي الصلدة.