المنشور

الثورات العربية بين مطرقة الاستبداد وسندان الإرهاب


قبل البدء في
الحديث عن الثورات والحال الذي انتهت إليه، وأسباب تعثرها والنتائج التي خلفتها…دعونا
نحاول ايجاد وصف حقيقي للمرحلة التي تجتازها المنطقة العربية بعد مرور خمس سنوات
على بداية شرارة الربيع العربي التي انطلقت من تونس وعمت بقية الأقطار العربية؟؟


في هذا الإطار
يمكن القول دون الوقوع في خطأ المبالغة أو التهويل .. بأن هذه المرحلة هي مرحلة
التغيرات والتحولات الكبرى  .. ومرحلة
الصراعات والحروب الطائفية، هي مرحلة مروعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى فقد شارفت
معظم الدول العربية الكبرى على الدخول، إن لم تكن دخلت فعلا دائرة خطر التفكك والانقسام
والانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وقد قاد الوضع المضطرب إلى انهيار التوازن
الجيوسياسي في المنطقة، لصالح اطراف وقوى اقليمية ودولية لها مشاريعها واهدافها
التي تتناقض كلياً مع المصالح العربية ومن بينها محاولة فرض معادلات سياسية وإقامة
نظام إقليمي جديد متسقاً مع نظرية الشرق الأوسط في المنطقة.


أذن من الضروري
والمهم معرفة مسار الأقطار العربية وإلى أين ستقودها الأحداث الملتهية فيها؟؟


هذه المقدمة
ضرورية، لأن الأوضاع التي وصفناها بالمروعة قد جاءت أو حصلت في أعقاب ثورات
وانتفاضات شعبية عمت بعض الأقطار العربية حين خرجت الشعوب مطالبة بتغير واقعها
السياسي والاجتماعي، ومواجهة الاستبداد والفساد، والتطلع لبناء أنظمة سياسية جديدة
قوامها الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وتحقيق المواطنة المتساوية
التي لا تميز بين المواطنين لدوافع سياسية أو دينية أو طائفية.


وبالرغم من
مشروعية هذه المطالب التي نادت بها الشعوب الثائرة إلا أن هذه الثورات قد أخفقت في
تحقيقها، وانتهى بها الحال إلى حالة من الفوضى والصراعات الطائفية والحروب الأهلية
، وهوما أثار أنقساماً حاداً في الآراء والمواقف من هذه الثورات وحول أسبابها
والنتائج التي انتهت ليها؟؟؟


في هذا السياق
تطرح عدة تساؤلات تفرض نفسها الأول لماذا فشلت الثورات في انجاز عملية التحول
السياسي وبناء انظمة ديمقراطية ؟وهل هذا الفشل يعود إلى طبيعة وخصوصية المنطقة
العربية أم يعود إلى طبيعة او مقومات الدولة العربية نفسها؟ الرافضة أو المخاصمة
للقيم الديمقراطية ولماذا هناك من يصر على تحميل هذه الثورات كل الأوزار والخطايا
والتداعيات السلبية التي رافقتها؟؟


طبعاً هذا البعض
يتحدث عن مقاييس الفشل والنجاح وهو يستدعي المقارنة بين فشلنا ونجاح دول مثل
أوروبا الشرقية في تسعينيات القرن الماضي. وامريكا اللاتينية في ثمانيانيته؟؟


هنا ينبغي أن ندرك
جيداً أن الانقسام الحاصل في المواقف من الثورات يعود بالأساس إلى تضارب المصالح
وتعارض الأدوار لكل الأطراف والقوى المؤثرة أو المتأثرة وكذلك الدول الداعمة أو
المناهضة لهذه الثورات.


سوف لن نتوقف
طويلاً عند أسباب دعم ومساندة هذه الثورات لان لذلك قصة ترتبط بالقييم الإنسانية
وجذورها الممددة في التاريخ حول المظالم وانتهاكات حقوق الأنسان.. أنما ما يعنينا
هنا موقف الأطراف والقوى المناوئة والرافضة لهذه الثورات التي لا ترى فيها سوى
العيوب والمثالث.. دون التوقف بشكل موضوعي ومنصف عند الأسباب الحقيقية لكل
التداعيات السلبية التي رافقت هذه الثورات ؟؟


وسوف نشير هنا إلى
مجموعه من الأسباب على سبيل المثال لا الحصر منها :



1)   




سياسات الأنظمة التي ثارت عليها الجماهير حيث
تعاملت بقسوة ووحشية لا مثيل لها مع هذه الثورات عبر تغليبها الخيار الأمني
والعسكري؟؟ وهو ما يعني ن هذه التحركات الشعبية قد أصطدمت بهياكل مستبدة غير قابلة
أو راغبة في التغير  وفي التحول
الديمقراطي.. وقد قامت هذه الهياكل بدور عائق وتدميري ليس في مناهضة التغير وافشال
الثورات فقط بل قامت بخلق قوى وتنظيمات وجيوش من الانتهازيين والنفعيين الذين
أججوا المشاعر والغرائز الطائفية لتشويه وضرب هذه الثورات، وقد قامت بخلق هذه
القوى من العدم والنفخ في روحها من اجل الوقوف في وجه التحول السلمي وهذا هو في
الحقيقة من ادخل هذه البلدان في الفوضى السياسية والأمنية وهيئ الأرضية للنزاعات
الأهلية الطائفية وتمزيق البنى الاجتماعية الضعيفة أصلاً.







 



2)   




السبب الثاني: هو اللجوء إلى العنف والتطرف
والأرهاب كوسيلة لمكافحة الاستبداد وبهذه السلوكيات والممارسات تم تقديم خدمة
جليلة للأنظمة للبطش بهذه التحركات الشعبية. كما أن هذه التطرف وفر الظروف
المناسبة لتنامي دور العامل الخارجي حيث أتاح المجال لتدخلات قوى اقليمية ودولية وتأثيرها
في الأحداث ،، ومحاولة توجيه مسارها بما يخدم أهدافها وأجنداتها؟؟






صحيح هناك مستويات متفاوتة في استخدام العنف واشكاله
واحجامه بين دولة وأخرى، الأ ان العنف مهما كان هو في نهاية المطاف يمثل خروجا عن
الخط السلمي ويقدم المبرر الذي يسعف الأنظمة في البطش بهذه الثورات، أما فيما
يتعلق بالقوى الإرهابية تحديداً فهي بدون أدني شك قد استغلت حالة الفوضى والفراغ
الساسي والأمني في بعض الدول العربية لتدفع بقواها الشريرة وباستراتيجيتها الإجرامية
في نشر الرعب والموت في كل مكان وهي شريك مع الأنظمة في دفع الدول إلى نفق
الصراعات والحروب الأهلية الطائفية الدموية التي لا زالت تستنزف هذه الدول وتعمق
جراحاتها وتمزق وحدتها الوطنية.






وهو ما يؤكد حقيقة التحالف غير المعلن بين القوى
الإرهابية والأنظمة الاستبدادية في مواجهة وافشال الحراك الشعبي، بعد أن تمكنت تلك
القوى من سرقة الثورات وافسادها وتشويه اهدافها والانحدار بها إلى بؤر الصراعات
والحروب.     


 



3)   




ثالث هذه الأسباب:





غياب أو ضعف القوى والأحزاب الوطنية ذات التوجه الوطني
والمدني وفشلها في قيادة هذه الثورات، لأنها بالأساس لم تكن حاضره أو مبادرة في
اشعالها.. أنما حاولت اللحاق بها ومساندتها في مرحلة متأخرة وهو من أفسح المجال
لقوى الشباب الذين يفتقرون إلى النضج الكافي وإلى الخبرة السياسية وغياب القدرة
على قراءة المتغيرات والتوازنات الإقليمية والدولية بالرغم من تشبعهم بالحماس
والحس الوطنيين؟؟؟


وهنا قد يثار جدل حول مسالة عفوية هذه الثورات أم
التخطيط المسبق لها وهذه قضية أخري لا يتحمل الوقت الخوض فيها.


 



4)   




السبب الرابع:





بروز قوى التيارات الإسلامية على مختلف عناوينها
وتلاوينها في مواجهة وقيادة هذه الثورات والسعي إلى جنى ثمارها وفق أجندتها.


ومعروف أن هذه القوى رغم مقارعة بعضها للأنظمة الحاكمة
إلا انها لا تملك مشروعاً أو رؤية واضحة للحكم البديل ولا لشكل الدولة التي يمكن
أن تقام بعد التحول السياسي الجديد.


كما أن هذه القوى
تفتقر الى القيادات ذات المستوى العالي من الخبرة والحنكة السياسية وكذالك ضيق أفق
إستراتيجيتها في عالم شديد التعقيد ، إضافة الى النزعة الإقصائية التي تمييز علاقة
هذه التيارات بالقوى السياسية الأخرى المختلفة معها في الرؤية السياسية والفكرية .


5) السبب الخامس :


الاستعجال في جني
ثمار الثورات والانتفاضات ، ورفع سقوف المطالب دون أي حساب للتوازنات المحلية ،
ودون تبصر للعواقب التي يمكن أن تنعكس سلبا على المجتمع وعلى الحراك الجماهيري
نفسه ، خاصة عندما ينقسم المجتمع على نفسه وتطفو كل الخلافات الكامنة على السطح
وتنفجر على شكل خلافات طائفية أو عرقية وهو ما يسمح لقوى الثورة المضادة باختراق
هذه الثورات … بينما المطلوب قدر أكبر من الوعي السياسي والوطني ، والتمسك بمبدأ
الشراكة والتوافق الوطني للعبور بالثورة والحراك الى بر الأمان .


ولعل هذا الأمر
يمثل أحد أهم دروس هذه الثورات الذي يجب تعلمه وهو عدم أمكانية نجاح اي ثورة أو
حراك في ظل انقسام اي مجتمع ، والذي يشكل أحد رهانات الأنظمة الحاكمة في قمع
الثورات .


هذا إضافة الى
ضرورة وجود حد أدنى من الاتفاق بين كافة القوى السياسية والمكونات المجتمعية على
المبادئ العامة الحاكمة لهذه الثورة أو الحراك ، وكذلك حول النتائج التي يمكن أن تتمخض
عنه ومن هذه المبادئ الاتفاق على شكل وصيغة النظام السياسي وسقف الإصلاحات
السياسية وإدراك خطورة تدويل القضايا الوطنية وكذالك مبدأ رفض العنف والتطرف ،
وحرمة دماء المواطنين كافة والامتناع عن كل أشكال التحريض السياسي والطائفي ، واحترام
حق الاختلاف ، وأخيرا رفض تسييس كل ما هو غير قابل للتسييس مثل الدين والمذهب
والقضاء والأعلام .


6) السبب السادس :


التعويل على دعم
ومساندة القوى الدولية مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو دول الاتحاد الأوربي أو
غيرها من القوى الخارجية والثقة المطلقة فيها وربما ذالك يعود الى سوء أو خطأ
قراءة القوى السياسية والشبابية لمواقف هذه الدول التي تحتكم الى المصالح ولا
تحكمها ثوابت أو معايير أخلاقية وهذا يمثل جهل بالوجه الأخر للسياسة وتحالفاتها الانتهازية
عند هذه الدول وقد يعود ذالك الى تلقي بعض القوى السياسية أشارات أو وعود بدعم التغيير
والتحول السياسي في هذا البلد أو ذاك ، في الوقت الذي بات واضحاً أن للقوى الدولية
إستراتيجيتها الخاصة في تعاملها مع التحركات الجماهيرية وبما يخدم أهدافها في
إعادة رسم المنطقة وتغيير خرائطها القديمة ، وإقامة دول وكيانات وفق المحاصة
الطائفية أو العرقية ، كما هو حال العراق النموذج الذي قدمته هذه الدول
للديمقراطية المزعومة .


ما نريد أن نصل
إليه في ختام هذه الورقة هو أنه رغم هذه العوامل التي سقناها حول تعثر أو إخفاق
الثورات ، إلا أنه من المبكر إصدار أحكام نهائية على هذه الثورات ، خاصة وإن
ساحاتها لازالت مشتعلة ، وتفاعلاتها تتصاعد حيث من الصعب التكهن بشكل نهاياتها
ونتائجها وربما سوف يستغرق الأمر سنوات عديدة حتى نستطيع تقييم إخفاقاتها أو
نجاحها بصورة عادلة ومنصفة .


الثورات لم تنجح
صحيح .. ولكنها لم تفشل بالمطلق أيضاً سوى في بعض الآمال والتوقعات المرتفعة وغير
الواقعية وعلينا عدم لوم الشعوب التي ثارت ، وعدم الكفر بقدرتها على إحداث التغيير
في يوما ما فهذه الشعوب قد قامت بدورها الطبيعي في مواجهة الظلم والاستبداد والسعي
نحو الحرية والعدالة والمساواة … وإن هذه الشعوب قد قامت بتحدي قواعد اللعبة
القديمة التي رسمتها الأنظمة وحدها وتحكمت في مخرجاتها لعقود طويلة ، وكسرت بذلك
حواجز الترهيب والحقوق .


أن هذه الثورات والانتفاضات
الشعبية رغم ما خلفته  من نتائج قد نختلف
أو نتفق في تقييمها ، فإنها بدون شك قد فتحت الأبواب مشرعة أمام الدول العربية
لطرق أبواب الديمقراطية لدخول مستقبل أفضل خالً من الاستبداد ومن التخلف ، ومن
مخاطر شرور الطائفية بعد أن كشفت هذه الثورات هشاشة البنى السياسية وضعف التماسك الاجتماعي
الوطني وهو ما يؤكد أنه ليس هناك ثورة أو حراكا وطنيا ما لم تكن أهدافه ومشاريعه
وطنية ديمقراطية جامعة وموحدة ، بهذه الرافعة وحدها يمكن أن ينهض أي وطن وأي مجتمع
وبها يمكن سد كل الفراغات التي يتسرب التطرف والإرهاب وكل التدخلات الخارجية
ومشاريعها المدمرة.


وعلى كل الدول
والمجتمعات الغارقة اليوم في وحل الطائفية أن تصحو من هذه الكوابيس، وتدرك أن كل
المشاريع والصيغ الطائفية لا مكان لها على خارطة المستقبل ، وإن المستقبل فقط مع
وحدة مكونات هذه الدول وحصول كل واحدة منها على حقوقها كاملة دون نقصان … وأي
فهم أو سلوك قاصر في هذا الاتجاه يفرض علينا إعادة صياغة العلاقة بين هذه المكونات
والاعتراف بأنها جميعها أجزاء أساسية في كيان الوطن الواحد . ولعل ذلك يمثل أبلغ
دروس الثورات العربية.








*عضو الأمانة العامة للتجمع القومي الديمقراطي، والورقة قدمت في ندوة
بمقر التجمع مساء 18 يناير/ كانون أول 2016