المنشور

موقفنا – الأوطان أولاً



الانتماء للأوطان هو الأساس، لا الانتماء للمذاهب والطوائف.لا جدال في حقّ كل مواطن عربي وغير عربي في أن يعتنق المذهب الذي يختاره أو ورثه عن آبائه وأجداده، لكن في نهاية المطاف يظل هذا أمراً خاصاً به، فعلى الوطن الذي ولد وتربى فيه وإليه ينتسب يعيش آخرون يعتنقون مذاهب وديانات أخرى، لكن الوطن هو ما يجمع الكل، ويوحدهم ويُشكّل هويتهم الجمعية الحقة، التي تجعلهم شركاء لا في الانتماء لهذا الوطن فحسب، وإنما في تنميته وتقدّمه والدفاع عن وحدته وسيادته واستقراره.
هذا هو الدرس الثمين الذي يمكن استخلاصه من الحراك الشعبي الجاري في بلدين عربيين غاليين علينا هما العراق ولبنان، حيث أثبت العراقيون واللبنانيون بالملموس، وعلى الأرض، ما دأب مفكرون وسياسيون عرب متنورون على تكراره خلال العقدين الماضيين، منذ أن هيمنت قوى الإسلام السياسي على الفضاء المجتمعي العربي الذي عمل على الإعلاء من فكرة الانتماء المذهبي على حساب الانتماء الوطني، وهو في ذلك لم يجد غضاضة في إعلان تعلقه أو ولائه لقوى إقليمية يراها ممثلة للمذهب الذي ينتمي إليه، بما في ذلك الانخراط في أجنداتها الخارجية.
قد لا يكون النصر المبين هو ما ستنتهي إليه تحركات العراق ولبنان بالضرورة. قد يؤدي استمرار القتل والاعتقال والخطف وإسالة الدماء في العراق إلى إنهاء التحرك بالقوة الغاشمة في لحظة من اللحظات، وقد تتمكن منظومة الفساد في لبنان من إشاعة حال من اليأس في صفوف المحتجين في الساحات، وتدسّ في صفوفهم من يحبط هممهم، وتشوّه صورة التحرك الشعبي وأهدافه، بالقول إنه مدعوم ومموّل من الخارج، وتكرار الزعم بأن المحاصصة الطائفية عصيّة على التفكيك لأن كيان البلد نفسه قائم عليها.
حتى اللحظة، فإن المؤشرات تشير إلى خلاف ذلك. ما زالت التحركات في البلدين رغم كل شيء تحافظ على زخمها بفضل شجاعة الشبان والشابات المرابطين في الساحات، وبالمستوى النوعي الذي بلغه وعيهم ب”تعفن” المنظومات التي ثاروا عليها. لكن إن نجح رهان الخصوم هذه المرة، فعليهم أن ينتظروا الجولة القادمة من الغضب، بعد شهور أو عام أو أعوام، حتى تأزف اللحظة التاريخية القادمة لا ريب فيها.
الانفجارات الكبرى تأتي في الكثير من الحالات عفوية، حين يفيض بالناس الكيل، لكنها سرعان ما تنتظم تحت قيادة محددة وبأهداف واضحة، وهذا ما علمتنا إياه الانتفاضة الشعبية المظفرة في السودان التي أسقطت حكم البشير، حيث تبنى اتحاد المهنيين الحراك الشعبي في مرحلته الأولى، وتالياً اتحدت القوى السياسية والنقابية في إطار “إعلان قوى الحرية والتغيير”، التي اتفقت، رغم ما بينها من تباينات في الفكر، على برنامج موحد.