المنشور

في أجواء “أن تقرأ لوليتا في طهران”

هي المرة الأولى التي أقرأ فيها رواية لكاتب إيراني، فلولا زيارة آذر نفيسي للبحرين واستضافتها من قبل مركز الشيخ إبراهيم في السابع عشر من فبراير الماضي، لما حصل لي شرف قرأت روايتها الجميلة “أن تقرأ لوليتا في ايران”، والكاتبة أستاذة في الأدب الإنجليزي وروائية فصلت من جامعة طهران بسبب رفضها ارتداء الحجاب، فغادرت إلى الولايات المتحدة عام 1997.

والرواية هي عبارة عن سيرة ذاتية للراوية أبدعت في حبكها من خلال تدريسها للأدب الإنجليزي في الجامعة واختيارها لتدريس روايات لكتاب عظام واستنباط رواياتهم وعكسها على واقع الجمهورية الإسلامية الإيرانية فروايات فلادمير نابوكوف: “لوليتا”،”دعوة لقطع العنق”، “تحدثي أيتها الذاكرة”، “المنعطف المشؤوم”،”الحياة الحقيقية لسيباستيان” وغيرها من الروايات، هذا الى جانب روايات فيتزجيرالد: “غاتسبي العظيم”، “الغفران”، “الحانة الغربية” إضافة إلى روايات أوستن: “الكبرياء” و”التحيز”، وغيرهم الكثير مثل موريل سبارك، مايك غولد، جيمس،هاوست.

الإبداع في هذه الرواية يكمن في أن الراوية استطاعت وبذكاء توظيف كل تلك الشخوص لمعالجة قضايا ما يحدث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية من مختلف الانتهاكات وعكسها على واقع الحياة اليومية من خلال طالباتها وطلابها كعينات استخدمتهم بفطنة لطرح مختلف القضايا، فعن رواية (لوليتا) لنابوكوف تقول: “كنا مثل لوليتا نحاول أن نناى بأنفسنا بحثًا عن جيوب صغيرة للحرية. ومثل لوليتا أيضاً، لم نكن ندّخر وسعا للتمايل طربا بتمردنا، كأن نظهر شيئاً من خصلات شعرنا من تحت الايشاربات، أو ندسّ قليلا من اللون في ذلك التشابه الممل القاتم في مظهرنا، أو نطيل أظافرنا أو نستمع لموسيقى ممنوعة، أو نحب”.

فكبت الحريات المفروض على الشعب الإيراني من قبل نظام الملالي يتبدى واضحًا من خلال هذه المقارنة بين وضع لوليتا تلك الطفلة المحاصرة من قبل ذلك الوحش هومبرت زوج أمها بعد أن فقدت والديها وأصبحت رهينة له ليشكل حياتها ويلونها ويغتصبها في محاولة لجعلها عشيقة له ليدمرها ويجعل حياتها لاتطاق.

هذا التشبيه البليغ بين وضع لوليتا والشعب الإيراني نجد له صدى في مكان آخر في تلك الرواية من خلال مصادرة النظام حقوق الإيرانيين في الملبس والعيش بحرية دون قيود، فأسوأ شيء وأقساه أن يصادر شخص حياة شخص آخر كما تقول، فالنظام في إيران حاول تشكيل شعبه وفقًا لأحلام ورغبات النظام من خلال فرض وجوده وسلطته على حياة الناس بالحديد والنار، وصنع من شعبه كما صنع هومبرت من لوليتا فحوّلها من “إنسانة حية نابضة، إلى مخلوق ساكن مطيع”.

كل تلك المحرمات انعكست على كل المجالات كالأدب والفن والموسيقى والباليه فقياديو الثورة من رجال الدين أرادوا كما تقول “أن يحولونا إلى نماذج من صنع خيالهم وهو ما حاولوا أن يفعلوه بآدابنا أيضًا. خذوا مثلا قضية سلمان رشدي”.

فالمرأة في ظل النظام القائم صودرت حقوقها وأعيدت إلى قرون سابقة بإلغاء القوانين العصرية من تحديد سن الزواج وحماية الأسرة وتخفيض سن الزواج إلى تسع سنوات، والرجم للزانية حتى الموت وغيرها من القوانين المجحفة للمرأة وأصبحت حزمة الممنوعات شيئاً لا يطاق، فأجبرن على لبس الحجاب وشكلت ميليشيا حماية الأخلاق لمراقبة وإحصاء أنفاسهن، فخصلة شعر، أو ضحكة أو مشية لا تعجب تلك المليشيات كافية للتوبيخ أو السجن.

في موضع آخر تقول: “كانت الموسيقى الإيرانية تعنى بالنسبة لهم الأناشيد الوطنية والمارشات العسكرية، أما المتعة فقد كانت في مكان آخر”. ومن هنا كانت الأطباق اللاقطة أيضًا ممنوعة ويعاقب عليها. ومن خلال رواية أخرى لنابوكوف: “دعوة لقطع العنق” تقارن مع وضع الشعب الإيراني وتقول: “أولسنا جميعًا ضحايا الطبيعة العشوائية لأي نظام شمولي؟ نظام لا يكفّ عن التدخل في حياتنا واقتحام أكثر تفاصيلنا حميمية وخصوصية، ولا يكف عن فرض خيالاته المريضة القاسية على حياتنا…الخ” .

وتقارن هنا بين جيلين؛ جيل ما قبل الثورة والحريات الشخصية، وجيل النساء في ظل حكم الملالي وتقول: “جيلنا يشكو من الضياع، من الفراغ الذي ظهر في حياتنا حينما سرقوا ماضينا وجعلوا منا غرباء منفيين ونحن في وطننا. ومع هذا فنحن لنا ماض نقارنه بالحاضر ولنا ذكريات وصور لما قد سرق منا على أية حال. بينما تحدثني طالباتي دائما عن قبلات مسروقة وأفلام لم يشاهدنها أبدًا، ونسمات لم يشعرن بها يومًا وهي تداعب أديمهن.انهن جيل بلا ماض”.

جعل نظام الجمهورية الإسلامية مواطنيه وهم ضحاياه شركاء في تلك الجرائم حيث كانت الحشود المنتشية بالنصر تشارك في تقبّل تلك الإعدامات لمن لا يشارك النظام ويعارضه، وبتلك الوحشية رغم وقوف تلك الجماهير وتلك الأحزاب بقيادة الانتفاضة ضد الشاه كحزب تودة وغيره من الأحزاب الوطنية، لتدور الدوائر على ما تبقى من مناصري الثورة ويتم إعدامهم والتنكيل بهم. وحتى الاماكن الجميلة بدت مظلمة وسادها القبح والفجاجة، فمطار طهران، كما تقول، كان مكانًا جميلًا سحريًا به مطعم رائع تقام به الحفلات في أماسي الجمع وغدا كئيبًا زالت الفرحة والمرح عن زائريه، وأصبح مكانًا للتفتيش عن المشروبات وأحمر الشفاه والكتب الممنوعة بحجة أنها تفسد الأخلاق، والقائمة تطول من الممنوعات والمحرمات .

في الأيام الأولى للثورة تمّ طرد العديد من أساتذة الجامعات، لا لشئ سوى الشكوك في ولائهم ولعدم انتمائهم للتيارات الجهادية الإسلامية، فكان مصيرهم الاعتقال والسجن أو الطرد وتمت التصفيات لخيرة الأكاديميين والعلماء، وتم اخراجهم من ملّة الإسلام وحقّ عليهم القصاص.

المكتبات أصبحت خاوية من الكتب التي لا تستهوي رجال الدين، وبات من النادر أن ترى كتابًا مخالفًا لتوجهاتهم المتشددة، وهنا تشير آذر نفيسي بمرارة: “في غضون بضعة أشهر فقط، أصبح من الصعب جدا العثور على فيتزجيرالد أو همينغواي في مكان، وإذ لم تستطع الحكومة سحب كل الكتب من السوق، فإنهم أخذوا بالتدريج يغلقون بعض أهم المكتبات التي تبيع الكتب الأجنبية، ثم أوقفوا توزيع تلك الكتب في إيران كلها.

لوثة حمى النظام لإزاحة معارضيه انتقلت لطلبة الجامعة وقاموا بطرد أساتذتهم لكونهم غير ثوريين، فالكل كان خائفًا من الكل وبدا المشهد سرياليًا إلى حد بعيد، فكانت الشعارات الثورية هي السائدة وحلّت محل التفكير الرصين، بعد أن سادت الغوغاء وضربت بأطنابها قطاعات المجتمع فأحرق الكثيرمن دورالنشر ومحال بيع الكتب، وهنا تقول آذر نفيسي:”بدأت الثورة تخلص إلى إيقاعها المنتظم: العنف، الإعدامات، الاعترافات العلنية بالجرائم التي لم ترتكب، الحكام الذين يتحدثون عن بترهم كفّ السارق أو رجليه، وقتلهم السجناء السياسيين لعدم وجود أماكن كافية لهم في السجون، ولم تسلم النسوة المعتقلات من الاغتصاب داخل السجون، وبتصاعد الأحداث تقول نفيسي أساءت الثورة الإسلامية للإسلام أكثر من أي غريب كان يمكن أن يسئ له.

فالثورة قد أفرغت رؤوس الفتية والفتيات من كل أشكال التفكير. ومع الأسف ليست نخبتنا الثقافية – زبدة المجتمع بأفضل حال منهم كما تقول نفيسي، وكما دمرهومبرت جسد الحلم وغاتسبي، وهو يدمرنفسه باستعادة حلمه بالماضي، فاكتشف بأن الماضي قد مات وبأن الحاضر زائف، ولم يعد له مستقبل، هو كما حال ثورتنا التي جاءت باسم الماضي الجمعي المتراكم ، وحطمت حياتنا باسم الحلم كما تقول آذر نفيسي. وصناع الأساطير العظام الذين أرادوا أن يفصلوا الواقع على ضوء معطيات حلمهم نجحوا مثل هومبرت في تدمير الواقع والحلم معا.

الرواية تقع في خمسمائة وستة وسبعون صفحة مليئة بالأحداث المشوقة لمن يود الإطلاع من الداخل على واقع الحياة في إيران الراهنة.

كابجن الصور
صورة 1 : غلاف الرواية
صورة 2 : آذر نفيسي