المنشور

“الفيزا” المرنة.. والقرار الشجاع

ربما سمحت لنا جائحة كورونا التي نعيش تداعياتها مع بقية دول العالم بالتركيز أكثر على بعض القضايا المسكوت عنها، او بالأحرى التي لازالت قائمة دون حل. ولعلّ من بين تلك القضايا التي شغلت الرأي العام في البحرين خلال شهر رمضان المبارك، ولازالت، قضية العمالة غير النظامية وما صاحبها من مظاهر مقلقة لنا جميعا.
فالمتابع للشأن العام يرى بوضوح تضخّم حجم كرة الثلج تلك والتي لازلنا ننتظر لها حلولًا عاجلة، وباتت تلزمنا جميعا بالوقوف عند مسؤولياتنا في هذه المرحلة المفصلية، التي من المفترض أن نستعد لسيناريوهاتها المنتظرة. أمور كثيرة باتت بالفعل تقلق الشارع البحريني من تداعيات ظاهرة العمالة غير النظامية والتي زادها سوءً معالجات الجهات الرسمية الخاطئة لها طيلة السنوات الماضية.
ليس دفاعًا عن مجلس النواب، لكنها الحقيقة، فقد بادر المجلس في الدور التشريعي الأول وفتح أولى المناقشات العامة حول هذه الظاهرة، وكان الحوار بين السلطتين اقرب للمساءلة العلنية، واستتبعها بطرح العديد من الأسئلة للحكومة والتي لازالت تتوالى حتى هذه اللحظة، فما يحصل تجاه هذه المسألة في الواقع والممارسة هو شرعنة غير مقبولة لتجاوزات تستلزم أشد العقوبات، باعتبار ذلك اعتداء على مقدرات وامكانيات ومستقبل وثقافة وحاضر ومستقبل بلد بأكمله باستقدام عشرات الآلاف من العمالة الوافدة ومن يقف وراءهم، والذين سمحت له بعض القوانين والقرارات غير المدروسة، إرضاءً لرغبات حفنة من كبار التجار والمتنفذين، علاوة على صغار التجار الذين ركبوا الموجة طمعًا في المزيد من المكاسب الأنانية الضيقة على حساب الوطن ومستقبله، وعلى حساب عمالة وافدة فقيرة، جاءت تبحث عن فرصتها في حياة كريمة، لتتلقفها نوازع وجشع من لا يتورعون عن المتاجرة بالبشر والأوطان دون واعز من ضمير.
ومع بروز جائحة كورونا وما حملته من تداعيات اجتماعية ومعيشية وصحية،ها هي “قنبلة” الفيزا المرنة تنفجر بقوة في وجوهنا كما كان متوقعًا، فالناس أضحت ممتعظة من آلآف الوافدين المصطفين يوميا في الشوارع وأمام دور العبادة ووسط أحياء غالبية المدن والقرى بحثًا عن المعونات الغذائية، والعاجزين أصلًا عن فهم ما يداهمنا من مخاطر حقيقية جراء هذه الجائحة، حتى يبدون غير مكترثين بكل ما يخرج من الجهات الرسمية من تعليمات وتحذيرات يومية، اضطرت معها الدولة لمخاطبة سفراء دولهم سعيا منها لبث جرعات من الوعي في أوساطهم، للتخفيف من حجم الضحايا قدر الإمكان.
ولا يزال الأمر يزداد سوءً، فهؤلاء الفقراء المعدمون المتكدسون بالعشرات في علب السردين المسماة مساكن عمالية، لا توفر الحد الأدنى من الحياة البسيطة لهم، والذين يتضور المئات منهم جوعًا وفقرًا وحرمانًا جراء انعدام فرص الرزق لهم، وإن توافرت تلك الفرص فإنهم يحرمون من أجورهم ليتركون لوحدهم يصارعون مرارة العيش الممزوج بالغربة والحرمان والإذلال انتظارًا للمجهول، فيما نبقى نحن أبناء هذا البلد الباحثون عن حلٍ ينهي معاناة تلك الفئات الفقيرة ومعاناتنا أيضًا، في حيرة وخوف على مستقبل وأمن واستقرار بلادنا التي تستنزف كل يوم جراء ما يحيط بنا من فوضى عارمة جعلت من نسبة الأجانب في بلادنا تفوق 800 ألفًا، لتحيلنا لأقلية تجهل مصيرها بعد سنوات معدودة، في وقتٍ يُفاخر فيه رسميا أننا بتطبيق نظام الفيزا المرنة هذا، فقد نجحنا في إحالة اكثر من 21 ألفًا منهم لأصحاب أعمال.. فكفاكم تخبطًا واستهتارا بنا وبهؤلاء البشر أيها السادة!
وعليه فإن المسألة بالنسبة لنا ليست تحاملًا أو تمييزًا من وجود تلك العمالة الوافدة، فنحن نعرف أن تشوهات سوق العمل والنهج الاقتصادي المتبع وعدم وضوح السياسات وغياب الإستراتيجيات الواضحة، قد خلقت أسواقا موازية وبؤر بؤس وفقر وجريمة، لا تليق بطبيعة بلادنا وشعبها، وخلقت أوضاعا تدعي أنها تحفز على المنافسة في السوق، لكنها في الواقع تسعى لتدميرما تبقى من ملامح واعدة في أسواقنا، وتضيق فرص العيش على شبابنا، وتحوّل المليارات التي نحن في أمس الحاجة لها نحو الخارج، وتتلاشى ملامح من ثقافتنا وتاريخ مدننا وأحياءنا الشعبية، وتتغيير للأبد ملامح اقتصادنا الوطني بفعل الحضور الطاغي لتلك العمالة الرخيصة المستلبة الحقوق.
وأخيرًا وليس آخرًا، ها نحن شهود على مكابدة بلدنا وشعبنا جراء تفشي الأمراض والأوبئة في أوساط تلك العمالة الفقيرة المتكدسة، وها هي بلدنا وطواقمنا الطبية تعمل على مدار الساعة لعلاج ومتابعة الآف المرضى والضحايا من تلك العمالة غير النظامية جراء وباء كورونا، والذي نخشى أن نفقد السيطرة عليه ونحن في انتظار إرادة عليا وقرار شجاع ينهي تلك المعاناة المرهقة والقاتلة سريعاً.