المنشور

الخروج لشراء جريدة

كان الجو محقونًا ومتوترأً في البيت، فاقترحت الأم على ابنها الأرمل أن يخرج لشراء جريدة.في قرارة نفسه كان الأمر سخيفا، إذ لم يكن من أولئك الأشخاص المدمنين على قراءة الجرائد، لكنّها لمّحت إلى أن والده يفعل ذلك. فخرج قاصدا المكتبة القريبة دون أدنى رغبة لشراء الجريدة، لكنّه فعل ذلك لإرضاء والدته .
في المكتبة سيلتقي سيدة تبحث عن كتاب، فيعرض مساعدته، ويقترح عليها عدة كتب، ثم حين تكتشف أنه ليس موظفا في المكتبة، “لخبطة” ثم اعتذار، ثم دعوة لشرب قهوة، كثير من الضحك في خلال جلسة قصيرة، يبدأ مطر خفيف بالهطول، تذهب السيدة، ويعود هو إلى البيت متوترا نوعا ما، أسرع مما يجب، يلحقه شرطي المرور ويسجل عليه ضبطا، وهكذا تنتهي رحلته الصباحية لشراء جريدة، يدخل مبللا قليلا، مرتبكا، وسعيداً.
كل هذه الأمور حدثت حين خرج لشراء جريدة..وفي الحقيقة كانت تحدث لنا على أيام الجرائد أمور مختلفة يوميا ونحن متوجهون لشرائها، قبل أن يقرر أصحابها اختراع الإشتراكات التي جعلتنا ندفع مسبقا ثمنها لتصلنا يوميا إلى بيوتنا. وقد يحدث أن نفتح الباب لإحضارها فنصادف الجار لنلقي عليه التحية، ونتبادل بعض الأخبار الشخصية، وقد تكون الجريدة سببا لدعوته على فنجان قهوة صباحي، تزيده حكاياتنا تميزا.
تطورت الأمور حين انتكس عالم الورق، وأصبحت الجرائد الإلكترونية فارضة سلطتها علينا، فتم الإستغناء عن فتح الباب صباحا، و دعوة الجار لاحتساء قهوة الصباح..
وجدت مواقع التواصل الإجتماعي نقاط ضعفنا بسهولة، فهي بشكل ما تروي الجانب الفضولي فينا، وتلبي رغبتنا لممارسة النميمة بكل أشكالها، فلم يعد لدينا الكثير من الوقت لدخول مواقع الجرائد، أصبح لدينا أشخاص نتبعهم، وآخرون يتبعوننا، ومؤثرون وثرثارون ومحبو الظهور وغيرهم.
يكفي الإستيقاظ والبقاء في دفء الفراش وفتح شاشات هواتفنا، للتجول بين صفحات أولئك القوم السالف ذكرهم، وقد نصاب بالنعاس مجددا من شدة التجوال والتركيز على الشاشة الساحرة التي لا تكف عن إبهارنا بقصص غريبة وأخرى عجيبة عن عالم مجنون كنا نجهله تماما على أيام الجرائد. تصاب أعيننا بالزغللة أحيانا من كثرة التركيز على سيل الحكايات الذي يغمرنا دون توقف، ننام ونستيقظ وجوعنا لما تحمله هذه المواقع بين ما هو صحيح وما هو خاطئ يتحوّل إلى إدمان. يفتي هؤلاء القوم في كل شيء، في السياسة والطب وعلوم الفقه، وفنون الطبخ والخياطة والبصل والبطاطا ومواد التنظيف، والأعشاب التي تشفي من السيدا والكورونا والسكري والسرطان ..
عالم بأكمله من الشعوذات تحمله هواتفنا، وقد نجحت في إعاقة حركتنا، قبل أن يحل فيروس كورونا ويحوّل يومياتنا إلى يوميات شبيهة بيوميات السجناء، ما نفع حياتنا كلها ونحن نراقبها عن بعد من خلال نوافذ صغيرة مكبلون في بيوتنا المغلقة؟
الآن فقط، وفي لحظة فارقة جدا، ستبدو الحياة كما كانت قبل عشر سنوات أجمل بكثير، وكلما عدنا بالذاكرة إلى الوراء ستبدو أكثر جمالا أضعاف المرات. قبل أكثر من ثلاثة عقود كانت الجرائد لا تزال تشجع مسابقات حقيقية في شهر رمضان، تعتمد على الذكاء والثقافة العامة، وكانت الجوائز المحفزّة لخوضها والمشاركة فيها، تكافئ المجتهدين، علينا أن ننتبه إلى جوائز اليوم التي تشبه لعبة “الروليت” مجرد رهان على الحظ، بعد إرسال رسالة هاتفية على أرقام معينة.
في زمن الكورونا استعاد الورق عافيته، أو هذا ما أراه على الأقل، حدث شيء جعل القراء يبحثون عن الكتاب الورقي، زاد الإقبال تحديدا على الرواية، وهذا من الأخبار السارة التي حملتها لنا الكورونا في طياتها، ولا أنكر أن ملمس الكتب الورقية هو الذي أيقظ في داخلي حنينا جارفا للجرائد الورقية، حتى أني اندهشت من أن نسبة تفوق التسعين بالمئة من السويسريين لا يزالون أوفياء لجرائدهم الورقية، ولا تزال جرائدهم مستمرة بالصدور بسبب وفائهم الخارق لها، حتى في هذا الوقت العصيب، تسابقت الدراسات لمعرفة مدى إمكانية نقلها للفيروس فثبت علميا “أن الفيروس يتحلل بسرعة على الأسطح الخاملة، وأكثر من ذلك على الأسطح المسامية، مثل الورق المقوى والورق العادي الرفيع” . هل هذه خدعة تجارية؟
بالتأكيد ليست كذلك، فقد نشرت دراسة مؤخرا في مجلة “نيو إنجلند أوف ميدسن” حملت الكثير من النتائج المفرحة، منها أن الفيروس التاجي يعيش مدة أطول على المساحات الملساء غير المسامية، كما يفقد قوته ويصاب بالضعف كل 66 دقيقة، خاصة في الهواء الطلق، وبعد أربع وعشرين ساعة يقضيها على ورق الكارتون يفقد قوته تماما، وكذلك على ورق الجرائد التي من الصعب أن تحمل الفيروس بما أن طباعتها لا تتم يدويا أبدا. ومع هذا هناك جرائد كثيرة على مستوى العالم توقفت عن طباعة جرائدها ورقيا. يا للمحنة!
ما الذي فاتنا حين توقفنا عن الخروج لاقتناء جريدة؟
فاتنا بالتأكيد ملامسة شمس الصبيحة ونسائمها، المشي في الشارع، لقاء أشخاص جدد، وأقدار مختلفة، كان بالإمكان أن تغيّر حياتنا، وإيقاعها الميت الذي نعيشه اليوم. كل حياة حركة، وكل موت ثبات، ونحن اليوم نزداد ثباتا وخوفي أن يطال الثبات أعيننا فنصاب بعمى جماعي بعد عقد أو عقدين من الزمن فنعيش بالضبط ما وصفه ساراماغو في روايته.
فمن كان يتوقع أن نبلغ في ظرف عشر سنوات كل هذه التغيرات المخيفة؟ فقد طال الخوف أعمق نقطة في أعماقنا حين جعلنا نخاف من وعلى أحبتنا، وأصبح من الممكن أن نستغني عن حاسة من أهم حواسنا وهي اللمس لنحافظ على بقائنا. لكن من يعرف سحر ملمس الورق ورائحته؟
أفهم جيدا هذه الحملات المنظمة من طرف عشاق جرائدهم الورقية للتشجيع خلال فترة الحجر على الإشتراك في جرائد معينة، اشتهرت بمستواها الثقافي الجيد، وأقلامها الراقية.
لا تزال الجرائد أرخص ما يمكن أن يشتريه الشخص، وأكثر حرصا على أذواقنا، دون اللجوء لإعلانات مفاجئة، في الغالب تزعجنا كقراء للنسخ الإلكترونية، وتشوش تركيزنا، وتخدش في الغالب متعة استمتاعنا بالقراءة.
هل يمكن لزمن الجرائد أن يعود؟ كثيرا ما طرح السؤال وأجاب عنه مثقفون وكتاب ومختصون، لكن من يستطيع التنبؤ بما هو قادم؟ ففي النهاية نحن نجهل تماما أي الأحلام ستنتابنا بعد انتهاء الجائحة، وأيها سنجتهد في تحقيقها، ولا نعرف حتما، هل هذا الفضاء الإلكتروني الذي نعيش في كنفه سيبقى صالحا وآمنا في المستقبل؟
كل الأسئلة التي تخطر على البال، تبقى بعض أجوبتها عالقة، ذلك أننا لا نعرف طريقة تفكير الأجيال القادمة، ولا توجهاتهم في الحياة، ألم تتربع الممثلة جودي دينيش على غلاف مجلة فوغ الورقية مؤخرا وهي في الخامسة والثمانين؟ أليس هذا مخالفا لقواعد جذب القارئ بصور الصبايا الحسان رشيقات القوام؟ إذن كل شيء وارد. أليس التوجه اليوم في اختيارات الأجيال الشابة مغايرا تماما لأجيال سبقته؟ ألا يهتم بما يأكل وما يشرب، وبممارسة الرياضة، واختيار النهج الصحي في الحياة؟ عكس شبان الماضي وخوضهم تجارب ومغامرات مجنونة تبدأ بالتدخين وتنتهي بأمور لا تُحمَد عقباها يضيق المقام لذكرها؟
لن نستبعد أبدا خوض مغامرة نشر جديدة لجرائد أو نشرات ورقية تهتم بالثقافة والفنون والآداب، وتملأ بعض تجويفات الحنين للأشياء الجميلة التي نفتقدها اليوم، ومن بينها الخروج صباحا لاقتناء جريدة، فأغلب أقدارنا الجميلة ككتاب وشعراء صنعتها الجرائد الورقية ذات يوم، وكلما كان مكان اقتنائها بعيداً، كانت أحلامنا الصباحية تأخذ، حجماً أكبر.