المنشور

1935

يوم الأحد، في ليلة العاشر من محرم 1935، في بيت من بيوت مدينة المنامة، حدث أمر جلل؛ وقع حادث غير واضح الأسباب، أدى إلى مقتل العشرات في ليلةٍ قاتمة، أحداثها جرت بشكل متسارع، لتظل واحدة من الحوادث التاريخية التي يقال فيها الكثير. تعددت الرؤى في وقتها حول سبب الحادث، بالتكهنات، والتوقعات، وإبداء الآراء، وقليل من التنظيرات الداخلة في تفاصيل تلك الليلة، ولازال الحديث عنها حياً، برغم مضي خمسة وثمانين عاماً على وقوعها، ولا زالت نفس الآراء المتعددة غير الخالية من الآيدولوجيا، والتعصب، والكسوة المذهبية، والتعنت في الرأي، كلما فكر أحد في الحديث عما دار في بيت التاجر محمد طيب خنجي في تلك الليلة، التي تقول روايات مكتوبة في أكثر من مصدر: إنه “يوم توزيع الزكاة”، الذي قدم فيه الناس من مناطق محددة بالبحرين -ولها دلالتها- مثل البديع، والحد، والرفاع، وبعض من مدينة المحرق والمنامة أيضاً(1).
وتناقل خبر توزيع الزكاة قبلها بأيام، حيث وفد الجميع في الوقت المعلوم، لكن ما حصل أن الزحام الشديد داخل منزل التاجر أدى إلى الاختناق الذي أوصد الباب الرئيسي على مائتي شخص – تقريباً، مات منهم على الفور ستة وستون شخصاً، كان أغلبهم من النساء والأطفال. “الحادثة مات فيها خلق كثير من النساء”، من مختلف مناطق البحرين.
كان التوقيت في تلك البقعة من أرض هذه الجزيرة الوادعة، صخب يعلو في التوقيت نفسه، لأنه العاشر من محرم المقدس عند المسلمين من الطائفة الشيعية، ولأنه اليوم الموعود لاستلام الصدقات عند فقراء المسلمين من الطائفة السنية، وهو أيضاً أحد “الشعانين” عند الديانة المسيحية، والمقصود به الأحد الذي يسبق عيد الفصح(2). كان الأمر أشبه بعرض درامي على خشبة مسرح واحدة؛ يبدأ الفصل التمهيدي بعرض الأحداث، ومقدماتها، ونماذج للشخوص القادمة، ثم يبدأ الفعل، حتى تحدث الذروة التي تعقبها انفراجة حسب القواعد الأرسطية الكلاسيكية. لكن الأحداث لم تكن عادية، ولا تحصل في كل وقت.
وعلى مدى سنوات طويلة، تناولت المطبوعات والمواقع الإلكترونية الحادثة بتفاصيل مختلفة قليلاً، ولكنها بنفس ذات المضمون الذي يشرح الحادثة، مثل ما ورد في كتاب “أخبار البحرين في القرن العشرين”، والمعنونة بـ “وفاة 83 شخصاً في حادث بالمنامة”: في حوالي 9 محرم 1354 الموافق 15 أبريل 1935م، توفي في المنامة 83 شخصاً، معظمهم من النساء والأطفال، وذلك بعد تجمع حوالي 2000 – غالباً كتب هذا الرقم عن طريق الخطأ، ومن المفترض أن يكون العدد 200- شخص خارج منزل أحد التجار، بعد سماعهم أن ذلك التاجر سوف يقوم بتوزيع مساعدات على الفقراء والمحتاجين، وسبب تدافعهم داخل ممر ضيق يؤدي إلى ذلك البيت، ولضيق التنفس، حاول بعضهم الخروج بأقصى سرعة، فسرت حالة من الهلع والرعب، فتدافعوا، وسقط الكثيرون منهم على الأرض، حيث سحقوا، وراح منهم 83 قتيلاً.
وقد أصدر حاكم البحرين الشيخ حمد بن عيسى بن علي أمراً بفتح باب التبرعات المالية والعينية لصالح أقارب الضحايا.(3) وأحدث من كتب في هذه الحادثة، كانت الباحثة البحرينية فوزية مطر، التي كتبت بذات التفاصيل السابقة: “في أبريل سنة 1935م، تناقل الناس خبراً مفاده أن التاجر المحسن محمد طيب خنجي قرر توزيع زكاة الفقراء والمحتاجين، احتفاء بزواج ولده. في 14 أبريل، توجه المحتاجون إلى بيت محمد طيب بالمنامة، وكان الكثير منهم نساء، قدم بعضهن برفقة أطفالهن، غصّت باحة البيت ودهاليزه بزحام شديد من طالبي الزكاة، ما أضطر أصحاب البيت لاتخاذ قرار إغلاق بوابته أمام الحشد المتجمع خارج البيت ودهليزه، بين من تسلم زكاته وينوي الخروج، ومن يندفع للداخل لتسلم الزكاة، في أجواء الزحام الشديد والتدافع بين الخارجين والداخلين، سقط البعض على الأرض، وداسته الأقدام، وهلك البعض الآخر اختناقاً، راح ضحية الحادثة 66 شخصاً، غالبهم من النساء، في نص رسالة بعث بها حاكم البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة للمعتمد السياسي البريطاني في البحرين، يشكره فيها على تعزيته بوفيات حادثة بيت محمد طيب خنجي”.(4)
ومما تقدّم، يتضح لنا في أكثر من مصدر أن المصادر المكتوبة – في كتب مطبوعة- تتجه إلى نفس الرواية التي قد تزيد تفاصيلها هنا أو هناك. من الناحية الأخرى، وحيث إن للحقيقة وجهات نظر عديدة، بحيث أنه لو قدر لنا استحضار شهود منذ ذاك الزمان، لتعددت رواياتهم، رغم وجودهم في نفس المكان. وهذا ليس نابعاً من عدم صدقهم، إلا أن لكل منهم زاوية رؤية يعبر عنها وفق قناعاته ومعتقداته، كما قد يحصل في الوقت الحالي؛ المزود بأعلى التقنيات الإلكترونية التي تمكن من تسجيل الحدث وروايته أيضاً بشكل مختلف عن الآخرين. فكيف بالوضع قبل أكثر من ثمانين عاماً من الآن؟ ما يحصل أن الحدث ينقل بصورة مغايرة عن ما سبق في المواقع الإلكترونية، لأسباب عديدة؛ أهمها عدم تمرير الرقابة – أي رقابة- لهذه الحادثة بالصورة التي تناولتها بعض المواقع، التي توصف بـ”المدونة”، أي الأقرب إلى شكل البحث، أو التقرير، المستند غالباً على مرجعيات، وأيضاً النقل الشفهي الذي يطعم بخلفيات الناقل، وأغراضه، وحكمه العاطفي.
إن قراءة هذه الواقعة، ورمزياتها، وما آل إليه الوضع، يخضع لأكثر من مستوى؛ أولها موضوع “التعايش” المرتبط بالمجتمعات المختلطة، الذي يثار دائماً، وربما أثير مؤخراً على مستوى علاقات أرفع، والأولى هنا أن الأقربين أولى بهذا المعروف! وهذا لا ينفي بالطبع وجوده في مجتمع متعدد، خليط من الديانات، والأعراق، والأصول، لكنه لا يثبت بالضرورة علاقات “عميقة” أو مثالية، هي أقرب بالوصف للعلاقات الطبيعية التي تتأتى من الاعتياد وحسن الجوار، عدا أنه غير مطلوب إثبات هذه الصورة الجميلة، أو تصديرها، طوال الوقت، لأنها ستتصدر لوحدها لو كانت حقيقية.
من باب آخر، فتحت هذه الحادثة التأويل العاطفي المصاحب لأي حدث مشابه، من الطبيعي التفكير في الحدود الضيقة التي تصور الآخر نداً وعدواً متربصاً، في جنوح الخيال المتعصب، وتحويل الحادثة إلى أسطورة، ترقد حتى الآن في أذهان الكثيرين، وهو التأثير الطبيعي للميثولوجيا على الشعوب، حتى لو كان معارضاً للعقل، والحسابات المنطقية الأخرى التي تفند أي تدخل للقوى الخارقة والمعجزات، والتي يلجأ إليها البعض، ويتبعهم كثيرون دون نقاش – حتى بينهم وبين أنفسهم!- قد يخرج بنتيجة مغايرة. تسليم العقول هذا أدى إلى الاتكالية والاستشارة، حتى في أكثر الأمور الشخصية بداهة، والمشكلة الحقيقية في التشبث الأعمى بالآيدولوجيات، وهذا التعصب الذي شمل كل من تعطلت لديه حاسة “الشك” إلى حين الاستدلال.
وفي “نموذج” واقعة طيب، لازال السؤال المحير عن ماهية التجمع فيها: توزيع صدقات، أم حفل ازدراء لطائفة أخرى؟ وهل نميل للوثائق الرسمية المكتوبة بنفس تاريخ يوم الحادث والأيام التي تلتها؟ أم للتاريخ الشفوي المتناقل، والمثقل بجو المعجزات: انتصار الخير، وتدمير الشر، المتمثل هنا في بسطاء الناس – أياً كان سبب حضورهم للبيت والمناسبة-؟ والملفت للانتباه، أن الأمور لازالت تأول إلى الأسوء شفهياً، رغم كل وسائل البحث العصرية التي تمنح المعلومات ببذخ أكثر من اللازم أحياناً، لكنها تضيف وتفتح آفاقاً جديدة بكل الأحوال.

ليس المطلوب الحسم في مسألة مضى عليها كل هذا الوقت، فهذا الحدث أو غيره، مهما أكدّ الآخرون دلائله، ستظل قوساً مفتوحاً يقفل بقناعة الشخص المطلع على ما كتب عن الواقعة. الفكرة هي الدعوة لإعمال العقل – أو إهماله- حتى تبقى المسلَّمات في أمور تستوجب التفكير، جزءاً من إبداء الامتنان والشكر لله الذي خلق العقل ودعانا للتفكّر. الوصول غير مهم، لأن الرحلة هي الغاية، والكنز في المعرفة. وإن كان ثمة شك في هذا القول، فليجرب أي أحد النبر في محرك البحث لفهم هذه الواقعة -أو غيرها من المختلف عليها، وتمسّ ثوابت يعتقد أنه مسلَّم بها- ومعرفة تفاصيلها، أو أي وجهة نظر مغايرة للسائد/ العام/ المتفق عليه على مضض، وكتابة منشور مسنود على دلائل مادية تسند طرفاً دون آخر، ويحمل وجهة نظر علمية، ليواجه طوفان التعصب الأبدي بالتنمر، والتعرض، والمطالبة بالتسليم، حتى تكون “أحدهم” وحسب.

الهوامش:
1. الوثيقة رقم (1)
2. (2) بحسب ترجمة مهدي عبدالله المأخوذة من مقال بعنوان: “البحرين-أحد الشعانين” عن مقال في مجلة نجلتيد اريبيا للسيدة ل.ب ديم والدكتور دبليو، العدد 172، سبتمبر 1935م.
3. أخبار البحرين في القرن العشرين، أحداث البحرين في 100 عام من الانطلاق حتى بزوغ الميثاق، حسين إسماعيل، الطبعة الأولى 2002م، ص 60
4. المرأة البحرينية في القرن العشرين، مرحلة ما قبل الاستقلال 1900-1970م، د.سبيكة النجار، فوزية مطر، دار مسعى لطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2017م، ص 353.