المنشور

لازمتهُ ضحكته

لعلّها هي أول ما يشدّك إليه، ضحكته المجلجلة، التي يطلقها بعد تعليقات لاذعة في أمر يسترعي انتباهه، والتي أصبحت لازمته لتبريد وطأة تلكم التعليقات التي غالباً ما تكون لاسعة. وهي ذات الضحكة التي وجهت لي الدعوة للاقتراب منه في أروقة صحيفة “الوقت” حينما كانت بداياتي في عالم المهنة حيث كان يحمل مسؤولية قسم الدوليات.
الحوارات التي كنت أشهدها ل “أبو فهد” مع آخرين في مكاتب الصحفية لا تختلف باختلاف الكراسي التي يجلس أمام أصحاب مكاتبها، فالذي يقوله أمام فنيي تنفيذ الصفحات يقوله أمام الكتاب الصحفيين في مختلف الأقسام ويقوله أمام هيئة تحرير الصحفية، لا يُغيّر ما يقوله بتغيّر الشخص الذي أمامه مهما أتفق معه في الرأي أو خالفه مخالفة شديدة.
من هم في مثل أحمد البوسطة يصعب فيهم الرثاء. ولم يدر في خلدي يوماً بأنني سأكتب عن مناقب “أبو فهد”، كما اعتدت أن أناديه أو ناعياً له، لأنه كان جلداً عنيداً وكنت أخاله سيقف كما كان دائماً نداً لخصمه وسيجارته في فمه ينفث دخانها دون اكتراث، حتى لو كان ذلك الخصم هو الموت. فلا يختلف على صفاء قلبه وبياض يده اثنان، وهو من الشخوص النادرة التي يجتمع على احترامها الخصوم والأضداد. وبفقده فقدنا مناضلاً من الطراز الأول، مناضلاً نفاخر به الزمن.
يمكن أن تكون قد خذلته الصحافة كوظيفة ولم تخذله الصحافة كمهنة، فشخصية “أبو فهد” لا يمكن لها إلا ان تكون شخصية صحافي يمسك قلمه ويُسلطه على مكامن القصور والخلل أينما صدر، مهما كانت إدارات الصحف تتفن في القفز على حبل المحاذير وتتماهى مع الكلمة واللعب على المفردات وتلطيف المعاني الظاهرة، كان أبو فهد لا يهادن ولا يحمل الكلمة أكثر من معنى، يقول ما يقوله غير مأسوف عليه ويوسم قوله ذاك بضحكته المجلجلة، حتى تتيقن بأنه قائلها وليس أحد آخر.
بعد إحدى فعاليات “التقدمي” في ملتقى الأحد، كانت تلك المرة الأخيرة التي أراه فيها، بعد السؤال والتحية وتتبع المستجدات الحياتية، وحينما أخبرته بتركي العمل في الصحافة أجاب بكلمة عبارة مجردة رماها ومشى: “حسناً فعلت”.