المنشور

صناديق التقاعد.. أي اصلاحات نريد؟!

على مدى أكثر من سبعة عشر عاماً بقيت قضية التأمينات الاجتماعية محل سجال مجتمعي متواصل، ولازالت القضية مرشحة للمزيد، ولذلك بطبيعة الحال أسباب عدة، لعل من بينها أن المعالجات التي تمّ الحديث عنها طيلة الفترة الماضية خضعت بطريقة او بأخرى، إما لابتسار متعمد، أو في أحسن الأحوال لتجاهل تام من قبل المعنيين، حتى أصبحت هذه القضية المحورية ككرة الثلج المتدحرجة، ونأمل ان لا يكون لها وقعاً موجعاً في نهاية المطاف، فهي قضية تحتاج الى تعاط جدي يتجاوز المصالح الضيقة والتعيينات والتنفيع والقرارات العابرة التي طبعت واقع الهيئة إدارياَ واستثمارياً بشبهات لا زالت بكل أسف تحوم، ملقية بحممها على كاهل البسطاء الفقراء من العمال والمتقاعدين الذين افنوا زهرة شبابهم في بناء هذا الوطن.
في هذه العجالة، يصبح صعباً الإقرار بجملة من الأرقام والنسب والعوائد والإيرادات والفساد والتجاوزات والقرارات الاداية والاستثمارية الخاطئة، فهي كثيرة ومتشعبة بعضها حقيقي والآخر لا يمكن تصديقه والتسليم به، لذلك يصعب علينا أن نقرأ مشهد أوضاع التأمينات الاجتماعية في البحرين من زاوية المطمئنين بكل تلك الحيثيات التي ربما ساهمت طيلة الفترة الماضية في اضفاء مزيد من الغموض على مشهد التأمينات الغامض اصلا!!
لكن ما يمكن ان يقال وقد اصبح جليا بالفعل، هو ان صناديق التأمينات الاجتماعية، وبشكل خاص صندوقي التقاعد في القطاع العام والخاص، والتي سبق ان تنبأ الخبيرالأكتواري السابق للهيئة ان افلاسهما سيبدأ فعليا نهاية العام 2022 فان الحقيقة الماثلة امامنا الآن تقول ان هذا الافلاس قد بدأ فعليا منذ العام 2016 اي قبل اوانه باكثر من ست سنوات. كثيرة هي المعطيات والتي سبق ان قلنا انه من الصعب تصديقها او حتى تكذيها احيانا فانعدام الشفافية والوضوح لا تعطي فسحة للحديث الجاد عن حلول يمكن ان يصدقها الشارع، وحتى نستذكر بعضا من الحقائق التي لامستها لجنة التحقيق البرلمانية الأولى التي شكلت في العام 2003 فأن صرخة الاستغاثة التي اطلقها الرئيس التنفيذي الأسبق في احدى جلسات مجلس نواب 2002-2006 كانت كفيلة لتداعي ثلة من اعضاء مجلس النواب لتشكيل لجنة تحقيق برلمانية في دواعي افلاس وأوضاع التأمينات الاجتماعية، استمر عملها لثمانية اشهر متواصلة خرجت بعدها بتوصيات استدعت اتهام وزيرين هما وزير المالية ووزير العمل السابقين والتي حالت تركيبة كتل المجلس الأسبق من اسقاط الثقة عن كليهما. ما يهمنا هنا ان التوصيات التي تم التوافق على رفعها للحكومة كانت محل اجماع نواب المجلس السابق، وتعهدت الحكومة بتنفيذها، الا ان ذلك لم يتم حتى بعد مرور كل هذا الوقت، وحيث تغيرت معطيات كثيرة على الأرض وأصبحت مسألة الاصلاح تتطلب اكثر من المناداة بالدمج واكثر من توحيد المزايا وأكثر من ضبط ادارة وموارد واستثمارات الهيئة وغيرها من التوصيات، فنحن الآن امام مشهد معقد بالفعل يحتاج اصلاحه الى اكثر من ترقيعات عابرة كتلك التي رفعها مجلس ادارة الهيئة مؤخرا وبشكل متسرع بغية اصلاح ما افسدته سنوات من الضياع وسوء الادارة والفساد والمحسوبية ووجوه عديدة من استنزاف صناديق التأمينات دون حسيب او رقيب.
بكل بساطة مسألة اصلاح اوضاع الصناديق التقاعدية لا يمكن القبول بتحميل اعباءها على كاهل المواطنين الفقراء وفئات المشتركين والمتقاعدين، وهناك امور لا يريد مجلس ادارة الهيئة الحديث حولها، لكنها في اعتقادي كفيلة بتحقيق اصلاحات جذرية واعدة اذا ما تم الاهتداء بها، ولعل اهمها يكمن في اهمية ايجاد مجلس ادارة وادارة تنفيذية قادرة ومحترفة ومتخصصة في ادارة احد اهم الصناديق السيادية في البحرين، ويكفي كل هذا التخبط الذي اوصل صناديقنا الى ان تكون قاعا صفصفا، هناك مسألة حيوية ترتبط بضرورة اعادة هيكلة سوق العمل البحريني بحيث تمثل العمالة الوطنية نسبة وازنة من اصحاب الاشتراكات، فأرقام التأمينات الاجتماعية الراهنة تقول ان هناك اكثر من 600 الف اجنبي في سوق العمل البحريني مقابل اقل من 120 الف بحريني، وفي المقابل هناك اكثر من 95 الف متقاعد يستلمون معاشاتهم التقاعدية وغالبيتهم في اعمار تعتبر نسبيا صغيرة مقارنة بمعدل عمر الانسان البحريني الذي يتجاوز قليلا ال 74 عاما!!
اذا نحن امام اشكاليات عديدة تغذيها ارقام وحقائق لا يمكن دحضها لعل من بينها غياب الحد الأدنى للأجور، وغياب الحد الأدنى للفقر، وحقائق اخرى اكثر مرارة تتمثل في ان سياسات الخصخصة وبرامج التقاعد المبكر ومن بعده الاختياري وماصرف عليها من تعويضات بعشرات الملايين دفعت من اموال الصناديق وليس من ميزانية الوزارات والجهات، المعنية التي كان همها فقط التخلص من عمالتها الوطنية لصالح نزعات الجشع التي اغرقت اسواقنا بعمالة وافدة لأكثر من 57 جنسية في سوق صغيرة لا تحتمل كل تلك الفوضى غير الخلاقة التي كانت نتيجتها ان يطلق الخبير الاكتواري رصاصته الأخيرة معلنا ان صندوق التقاعد الحكومي سيستنفذ بحلول العام 2024 فيما سيقاوم صندوق القطاع الخاص متعكزا حتى العام 2033!!
هنا نتوقف لنسأل اسئلتنا المعتادة التي ستظل تبحث عن اجابات لا تأتي في الغالب.. لماذا تأخر اصلاح الصناديق؟! واين هي استثمارات الهيئة وكيف تدار وما هي آليات تنميتها وهل هي بالفعل مجدية؟، ولماذا تأخر الحديث عن زيادة الاشتراكات والدمج وتوحيد المزايا منذ 2004 حتى الآن ولماذا يجد مجلس الادارة ضالته فقط في استهداف الزيادة السنوية المعادلة للتضخم البالغة 3% والتي لا تمثل في مجموعها اكثر من 15 مليون دينار سنويا، بعكس ما ذكره رئيس مجلس ادارة الهيئة حيين اجاب على تساؤلاتنا من ان ذلك يكلف اكثر من 6 مليارات دينار.. اي عقل يمكن ان يصدق هذا التلاعب الفظ بالأرقام والنسب والمعطيات؟!! والأهم من ذلك لماذا لا تريد الهيئة الحديث عن اعادة ادخال الأجانب للتأمينات وقد اخرجو منها بقرار اداري منذ اكثر من 43 عاما..اسئلة لا اعتقد اننا سنجد لها اجابات وافية طالما بقي الحديث عن اصلاحات شكلية لا ترقى لطموحات اصحاب الاشتراكات والمتقاعدين الذين تركو لوحدهم يعيشون اوضاع مقلقة، نتمنى ان لا تستمر كثيرا حفاظا على استقرارنا الاجتماعي الذي يجب ان لا يكون مرتهنا لأجندات مفروضة يرسمها صندوق النقد عبر مشاريعه المشبوهة حول العالم!